يكرر القرآن قصة نوح للتأكيد على التوحيد، وتقوية معنويات المؤمنين، وإنذار الكفار، وإبراز جوانب متعددة من دروس القصة. هذا التكرار هو أسلوب تربوي فعال لترسيخ الرسائل الإلهية الأساسية وإظهار وحدة الرسالات النبوية.
القرآن الكريم، بصفته كلام الله، لا يكتفي بسرد قصص الأنبياء فحسب، بل يسعى، من خلال التكرار الذكي لبعضها، لتحقيق أهداف أعمق ودروس أوسع. قصة النبي نوح (عليه السلام) هي أحد أبرز الأمثلة على هذا التكرار، فقد رُويت في سور متعددة مثل هود، نوح، الأعراف، الأنبياء، المؤمنون، الشعراء، والقمر، وكل مرة بأساليب مختلفة. هذا التكرار ليس عبثًا أو نقصًا في المحتوى، بل يكمن فيه حكم وفلسفات قيمة للغاية وضرورية للفهم الكامل للرسالة الإلهية. أحد أهم أسباب تكرار قصة نوح هو التأكيد على أهمية رسالة التوحيد ومكافحة الشرك. في كل مرة تُروى القصة، يتم إبراز جانب من دعوة نوح إلى التوحيد ومقاومة قومه الشديدة لهذه الدعوة. هذا التكرار يذكر بالأهمية المحورية للتوحيد عبر العصور وللبشرية جمعاء، ويظهر أن الصراع بين الحق والباطل، منذ فجر التاريخ، كان يدور حول هذا المحور. يريد الله أن يفهم البشر أن المحور الأساسي للسعادة والشقاء هو قبول أو رفض التوحيد. سبب آخر هو تقوية معنويات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين الأوائل. كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يمر بفترة صعبة في مكة؛ كان كفار قريش يكذبونه ويؤذونه. وقد كان السرد المتكرر لقصة نوح الذي دعا قومه إلى الإيمان لسنوات وواجه أشد التكذيب والإيذاء، ولكنه نجا في النهاية، مصدر راحة وطمأنينة للنبي ورفاقه القلائل. هذه القصة علمتهم أن الصبر والثبات في سبيل الله، حتى في مواجهة أعظم العداوات، يؤدي في النهاية إلى النصر. هذا التكرار نقل رسالة مفادها أن مشاكلكم الحالية هي أيضًا مؤقتة وأن النصر الإلهي قادم. بالإضافة إلى ذلك، كان تكرار قصة نوح يهدف إلى الإنذار والتخويف للكفار والظالمين المعاصرين لنزول القرآن. فقد أدرك القرشيون والمشركون العرب الآخرون الذين كذبوا النبي، عند سماع قصة نوح والعقوبات الشديدة التي نزلت على قومه العاصين، أن مصيرًا مشابهًا ينتظرهم. هذا التكرار كشف لهم أبعادًا مختلفة من العذاب الإلهي وإتمام الحجة، وأتاح لهم فرصة للتوبة والعودة. في كل مرة تُروى فيها القصة، تصل رسالة إنذار جديدة إلى آذانهم، وكانت بمثابة صدمة لإيقاظ الضمائر النائمة. مع كل تكرار لقصة نوح، يشدد القرآن على جوانب مختلفة من الرواية ودروسها. على سبيل المثال، في سورة قد يتم التركيز على صبر نوح وثباته، وفي أخرى على عناد وتكبر قومه، وفي سورة ثالثة على عظمة القدرة الإلهية وقت الطوفان، وفي رابعة على جوانب بناء السفينة والأوامر الإلهية. هذا التنوع في السرد يوضح عمق وأبعاد القصة المختلفة، ويسمح للمتلقي بالنظر إليها من زوايا متعددة وتعلم دروس أكثر. كل تكرار، يشبه نورًا يسلط من زاوية جديدة على لوحة فنية رائعة، يكشف عن تفاصيلها الخفية. تكرار القصص في القرآن هو أسلوب تربوي وتعليمي فعال. فكما أن تكرار المفاهيم في التعليم يساعد على ترسيخها في الذهن، فإن القرآن بهذه الطريقة يرسخ المفاهيم الأساسية للإيمان، التوحيد، النبوة، المعاد، الصبر، والتوكل في وعي المستمع. هذا التكرار ليس مملًا، بل يأتي كل مرة بلمسات بلاغية ومعنوية جديدة تحافظ على جدته وتأثيره. بعبارة أخرى، كل تكرار ليس مجرد نسخة طبق الأصل، بل هو عرض جديد مع التركيز على نقطة معينة. أخيرًا، يشير تكرار قصة نوح إلى وحدة الرسالة الإلهية عبر التاريخ. فجميع الأنبياء، من آدم إلى خاتمهم، حملوا رسالة أساسية واحدة: الدعوة إلى عبادة الله الواحد وإقامة القسط والعدل. قصة نوح هي مثال على هذه السلسلة المتواصلة من النبوة التي تظهر أن المشاكل والتحديات التي واجهها الأنبياء عبر التاريخ كانت متشابهة جدًا، وأن الحل النهائي للنصر هو التوكل والثبات على الطريق الإلهي. هذا التكرار يؤكد على عالمية وشمولية الرسالة الإلهية عبر الزمان والمكان، ويظهر أن الحقائق الأساسية للإيمان ثابتة ودائمة لكل الأزمان والأماكن. وبهذه الطريقة، يقدم القرآن، بتكرار هذه القصة الهادف، ليس مجرد قصة، بل نموذجًا كاملاً للصراع بين التوحيد والشرك، والصبر والعناد، والنصر الإلهي والكفر، وهو نموذج يمكن الاقتداء به والتفكر فيه لكل الأجيال.
في يوم من الأيام، كان رجل في بستان سعدي يروي كيف يتعلم من أخطاء الماضي. قال: "كأن كل قصة تتكرر، هي خريطة جديدة لعبور المنعطفات الصعبة في الحياة." فأجابه صديقه الذي كان يجلس بجانبه: "صدقت يا صديقي، فكذلك قصص الأنبياء في القرآن. كلما قرأت قصة نوح، كأن درسًا جديدًا من الصبر والثبات وعاقبة العصيان ينبت في قلبك. لقد كرر الله هذه القصص لنتعلم من أخطاء السابقين ولا نضل طريق السعادة، وليس لمجرد التسلية بالرواية." تذكرنا هذه الحكاية أن التكرار في الكلام الإلهي يهدف إلى تعميق الفهم وتأصيل الدروس في نفوسنا.