يتناول القرآن قصة موسى وفرعون مرارًا لإظهار الصراع الدائم بين الحق والباطل، ومصير الظالمين، وقدرة الله المطلقة، وضرورة ثبات المؤمنين. هذا التكرار يمثل قدوة ودرساً ومصدر طمأنينة لكل زمان.
تُعَدّ قصة موسى وفرعون من أكثر القصص التي تكررت في القرآن الكريم، وتُعرض بتفاصيل عميقة ومن زوايا متعددة. هذا التكرار ليس عبثياً، بل هو نابع من حِكَم بالغة ودروس لا تُحصى تحملها للبشرية عبر العصور. فالقرآن، بتناوله المتكرر لهذه القصة، يسعى بوضوح لتحقيق أهداف تربوية، وهداية، وأخلاقية، وعقائدية. هذا التكرار هو أسلوب بلاغي لتثبيت المفاهيم الأساسية وإحداث تأثير أكبر في قلوب المتلقين، بحيث تتجلى في كل مرة جوانب جديدة من القصة وتتكشف طبقاتها الخفية من الدروس. أحد أهم الأسباب وراء تكرار هذه القصة هو توضيح الصراع الدائم بين الحق والباطل. فلطالما وقف جبهتان متقابلتان عبر التاريخ: جبهة الحق (التي تمثل التوحيد والعدل) وجبهة الباطل (التي تمثل الشرك والظلم والاستكبار). كان موسى عليه السلام والأنبياء قبله وبعده، رمزاً للحق والتوحيد، بينما كان فرعون وجنده يمثلون الكفر، والطغيان، والاستكبار في الأرض. تُظهر هذه القصة بوضوح أن الحق منتصر في النهاية وأن الباطل زائل لا محالة، حتى لو بدا الباطل قوياً ومسيطراً في البداية. هذه الرسالة تبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين وتُعد إنذاراً شديداً للظالمين. السبب الثاني هو أخذ العبرة للحكام وأصحاب السلطة. كان فرعون رمزاً كاملاً للاستكبار والأنانية، فقد ادعى الألوهية واستعبد الناس بقسوة بالغة. وفي النهاية، غرق هو وجنوده في البحر، وزالت قوتهم في لحظة. هذا الحدث تذكير مؤثر بأن القوى الدنيوية، مهما بلغت من العظمة والبهاء، فإنها لا شيء ولا قيمة لها أمام القدرة الإلهية المطلقة. لا يمكن لظالم أن يفر من عذاب الله. هذا الدرس، بخاصة للحكام وأصحاب النفوذ في كل زمان ومكان، ضروري جداً ليتعظوا من مصير فرعون ويكفوا عن الظلم والطغيان. الحكمة الثالثة هي إثبات قدرة الله اللامتناهية ونصره لعباده الصالحين. قصة موسى وفرعون مليئة بالمعجزات الإلهية: تحول العصا إلى حية، واليد البيضاء، وانفلاق البحر، والبلايا التي حلت على قوم فرعون (الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم)، ونجاة بني إسرائيل من قبضة فرعون الظالم. هذه المعجزات دلائل واضحة على قدرة الله المطلقة الذي يستطيع أن يغير القوانين الطبيعية لتحقيق إرادته، وينقذ المؤمنين في أصعب الظروف. وهذا يعزز إيمان المؤمنين وتوكلهم، ويؤكد لهم أنهم ليسوا وحدهم أبداً، وأن الله هو نصير عباده الصالحين دائماً. السبب الرابع هو تقديم القدوة للمؤمنين في مواجهة الشدائد والظلم. كانت حياة موسى عليه السلام مليئة بالتحديات والمصاعب؛ من ولادته في أوج الخطر، وتربيته في بيت العدو، وفراره، وعودته للرسالة، ومواجهة فرعون. ومع ذلك، فقد أدى واجبه بأفضل وجه بالصبر والتوكل والثبات منقطع النظير. هذه القصة تعلم المؤمنين ألا يستسلموا للظلم، وألا يخافوا من العقبات، وأن يستمروا في النضال في سبيل الحق بالتوكل على الله والصبر والثبات. هذا السرد يعزز روح الجهاد والمقاومة في الأمة الإسلامية. الجانب الخامس هو بيان السنن الإلهية في التاريخ. يوضح القرآن من خلال هذه القصة السنن الإلهية المتعلقة بالهداية والضلال، وسنة الابتلاء، وسنة الإمهال للظالمين، وسنة النصر النهائي للحق. هذه السنن هي قوانين ثابتة تحكم المجتمعات وتحدد مصير الأمم. فهم هذه السنن يساعد الإنسان على تحليل التاريخ بشكل صحيح والتنبؤ بالمستقبل. فعلى سبيل المثال، أمهل الله فرعون، ولكن عندما لم يؤمن وأصر على الظلم، حل به العذاب الإلهي. يُلاحظ هذا النمط من السلوك الإلهي تجاه الظالمين في قصص أخرى أيضاً. الهدف السادس هو مواساة وطمأنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ففي وقت نزول القرآن، كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل في مكة يواجهون اضطهاداً شديداً من المشركين وقادة قريش، والذي كان يشبه إلى حد كبير ظلم فرعون لبني إسرائيل. إن تكرار قصة موسى وفرعون كان يبعث الطمأنينة في قلوب النبي وأصحابه بأن الله سينصرهم، كما نصر موسى ودمر فرعون، وأن المشركين سيهزمون في النهاية. هذا التكرار حافظ على روح المقاومة والأمل في قلوبهم وشجعهم على الثبات في سبيل الله. أخيراً، هذه القصة هي نموذج لإرادة الله في تحقيق وعوده. فقد وعد الله بني إسرائيل بالنجاة ووراثة الأرض، وقد تحقق هذا الوعد. وهذا يدل على أن وعود الله حق لا تتخلف أبداً. هذا يمنح المؤمنين الأمل والثقة بأنه إذا ساروا على النهج الإلهي وأدوا واجباتهم، فإن الله سيحقق وعوده لهم أيضاً. هذه القصة هي مخطط عام للصراع الأبدي بين الإيمان والكفر والانتصار النهائي للإيمان، وهي قابلة للتكرار في كل عصر وزمان، ودروسها تظل جديدة وفعالة للبشرية إلى الأبد. لهذا السبب، أراد القرآن بتكرارها أن يرسخ أهمية وعمق هذه الدروس في العقول والقلوب.
يُروى في گلستان سعدي أن ملكاً ظالماً كان دائماً يظلم رعيته، ولم يكن لأحد أن يواجهه. كان الناس يتألمون، وكانت آهات المظلومين تصعد إلى السماء. في أحد الأيام، مر درويش زاهد وحكيم بجانب قصره. فلما رآه الملك، قال بسخرية: «أيها الدرويش، ماذا تعرف عن الحكمة والسلطنة؟ أنا الملك وحاكم هذه الديار.» رد الدرويش بهدوء: «أيها الملك، أرى قوتك وبهائك، ولكني سمعت قصصاً كثيرة عن ملوك أقوياء قادتهم غطرستهم إلى الهلاك، ولم يبق منهم سوى ذكر سيء. اعلم أن كل يد ترتفع، ستنخفض يوماً ما، وكل قوة ستزول. ما الفائدة من الجلوس على عرش ذهبي وأنت تؤذي القلوب بالظلم؟ العاقبة الحسنة لمن يسلك سبيل العدل ويفكر في نهاية أعماله.» لم يأبه الملك لكلام الدرويش واستمر في ظلمه حتى قام ثورة عظيمة في أرضه فجأة، وأُخلع من عرشه بأبشع طريقة ممكنة، وفسد كل ما كان يملك. وتذكر الناس كلام الدرويش بأن مصير الظالمين هو الزوال دائمًا، مثل فرعون الذي سقط أمام إرادة الحق على الرغم من كل قوته.