يروي القرآن قصة يوسف بالتفصيل لتقديم دروس روحية وأخلاقية وتربوية عميقة حول الصبر والتوكل على الله والعفة والعفو بأفضل طريقة ممكنة. كما كانت القصة مصدراً للعزاء للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في أوقات الشدة.
قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) في القرآن الكريم، والتي اشتهرت بـ «أحسن القصص»، ليست مجرد رواية تاريخية بحتة، بل هي كنز من الحِكَم والدروس والعبر الروحية والأخلاقية والتربوية العميقة. إن تفصيل هذه القصة وإسهابها في سورة يوسف، التي كادت تستوعب السورة بأكملها، له أسباب متعددة، يظهر كل منها أهمية ومكانة هذه الرواية الفريدة في الرسالة الإلهية للقرآن. السبب الأول والأهم هو جانبها التعليمي والتربوي. يقول القرآن الكريم نفسه في سورة يوسف، الآية 3: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ». هذا التعبير يدل على أن قصة يوسف متميزة عن غيرها من القصص لشموليتها وكمالها. هذه القصة ترسم بجمال مسيرة حياة إنسان صالح منذ طفولته ورؤاه الصادقة، مروراً بحسد إخوته ومؤامرتهم، وإلقائه في البئر، وبيعه كعبد، واختباره الإلهي في بيت عزيز مصر والاتهام الباطل، وسجنه، وصبره وثباته أمام الصعوبات، وصولاً إلى مقام السلطة والعزة وتحقق رؤاه. هذه التقلبات والتحولات تقدم دروساً عظيمة في الصبر، والتوكل على الله، والعفة، ومقاومة النفس الأمارة بالسوء، والعفو، والتدبير، والإدارة لكل الناس. إنها خارطة طريق دائمة لمواجهة تحديات الحياة. ثانياً، التأكيد على مفهوم التوكل والإرادة الإلهية. ففي كل مراحل هذه القصة، نجد يوسف (عليه السلام) في أوج الشدائد واليأس، لا يتوكل إلا على الله، ولا ييأس أبداً من رحمته. إن إلقاءه في البئر، وبيعه عبداً، وسجنه، كلها كانت ظاهرياً مصائب يمكن أن تحطمه، ولكن كلاً منها كان سلماً للوصول إلى الغاية الإلهية. هذه القصة تظهر بوضوح كيف يدبر الله الأمور، وكيف يحول الشرور والمؤامرات البشرية إلى خير وصلاح لعبده. وهذا الأمر يبعث الطمأنينة والأمل في نفوس المؤمنين الذين يواجهون المشاكل والمصائب في حياتهم، ويمنحهم الأمل بأن نهاية الليل المظلم هو الفجر الساطع. ثالثاً، عرض أبعاد مختلفة للنفس البشرية والأخلاق الإلهية. قصة يوسف هي مسرح لتصارع الفضائل والرذائل الإنسانية. حسد الإخوة، وطمعهم، ومكر النساء، والكذب والخداع، كلها جوانب مظلمة من الوجود البشري صورتها هذه القصة. في المقابل، يمثل صبر يوسف (عليه السلام)، وعفته، ونقائه، وحكمته، وعفوه، وكرمه، وإيمان يعقوب (عليه السلام) وتوكله على الله، الجوانب المشرقة والسامية للإنسانية. هذه القصة تعلمنا كيف يحارب الإنسان الوساوس الداخلية والخارجية، وكيف يسير في طريق الفضائل. ذروة هذه القصة هي عفو يوسف (عليه السلام) عن إخوته المخطئين، وهو ما يظهر أوج الكرامة والعظمة للإنسان الإلهي. هذا الدرس حيوي للغاية للعلاقات الأسرية والاجتماعية ولنشر ثقافة السلام والمصالحة. رابعاً، كانت مصدراً للعزاء وقوة القلب للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه. في الوقت الذي كان فيه النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) يتعرض للأذى والاضطهاد من المشركين في مكة، ويواجه صعوبات ومؤامرات كثيرة، كان نزول قصة يوسف بمثابة تعزيز روحي وقوة قلب له وللمؤمنين. قصة يوسف، التي يرتفع فيها نبي الله بصبره وثباته من بئر الذل إلى قمة العزة والسلطة، كانت تؤكد أن وعد الله حق، وأن بعد كل عسر يسراً. هذه القصة علّمت النبي ألا يخاف من مكائد الأعداء، وأن يواصل رسالته بتوكل لا يتزعزع على الله. خامساً، تبيان أهمية تعبير الرؤى والعلم الغيبي. في هذه القصة، تلعب رؤى يوسف (عليه السلام) وملك مصر دوراً محورياً، ويحدث تفسيرها نقطة تحول في حياة يوسف وشعب مصر. هذا الموضوع يدل على أهمية ومكانة علم تفسير الأحلام كنعمة إلهية، وكذلك العلم اللدني الذي يمنحه الله لأنبيائه وأوليائه. باختصار، تفصيل قصة يوسف في القرآن، يعود إلى شموليتها في معالجة أبعاد الحياة البشرية المختلفة، من الاختبارات الفردية والأسرية إلى التحديات الاجتماعية والسياسية، وكذلك إظهار قدرة الله المطلقة في تدبير الأمور وتجلي الفضائل الأخلاقية، مما يجعلها تحفة تعليمية وتربوية. هذه القصة ليست فقط لعصر معين، بل هي لجميع العصور، ولكل إنسان يبحث عن الهداية والكمال، فهي مليئة بالنقاط التعليمية والملهمة.
يُحكى في «گلستان» لسعدي: «رأيت رجلاً كان يصبر على محنته ولا يشكو. سألوه: لماذا أنت هادئ وصابر هكذا؟ قال: 'من يعلم أن ربه عليم وقدير، فلن يجزع أبداً من قضائه وسيسلم قلبه للصبر.'» هذه الحكاية الجميلة تذكرنا بقصة النبي يوسف كيف تحمل حسد إخوته، والاتهامات الباطلة، وسنوات السجن الطويلة بصبر لا يتزعزع ولم يفقد أمله في الله أبداً. لقد كان يعلم أن الله هو المدبر الأسمى وأن الخير يكمن وراء كل شر. وفي النهاية، قاده صبره وتوكله إلى قمة الشرف، وهذا الصبر هو الذي جعله يسمى 'الصديق'. فيا صديقي، في منعطفات الحياة، إذا واجهت صعوبة، فاعلم أن نهايتها مشرقة. ما عليك سوى أن تسلم قلبك لله وتتحلى بالصبر، ففي هذا الصبر يكمن الكنز الحقيقي.