التخلي الهادف عن بعض النعم، كالصيام والإنفاق، لا يعني تحريم الحلال بل يهدف إلى التحرر من التعلق وتحقيق التقوى والنمو الروحي. هذا الفعل يحرر القلب من الماديات ويقرّبه من القرب الإلهي.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية، تعد العلاقة بين التمتع بالنعم وتحقيق النمو الروحي موضوعًا عميقًا ومتعدد الأوجه. لقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون وكل ما فيه للإنسان، وأنعم عليه بنعم لا تحصى. في العديد من الآيات، يدعونا القرآن إلى شكر هذه النعم واستخدامها بشكل صحيح. ولكن السؤال المطروح هو: هل يمكن أن يؤدي التخلي عن بعض هذه النعم أو الابتعاد عنها إلى سمو الروح والنمو الروحي؟ يتطلب الإجابة على هذا السؤال فهمًا عميقًا للمنظور القرآني للعالم والنعم والهدف من خلق الإنسان. القرآن الكريم لا يدعو بأي حال من الأحوال إلى الرهبانية أو الترك الكلي للحياة الدنيا وملذاتها المشروعة. بل على العكس، في آيات مثل سورة الأعراف الآية 31، يقول الله تعالى: «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ». هذه الآية توضح بجلاء أن استخدام الجمال والملذات المشروعة في الدنيا ليس فقط جائزًا، بل هو مطلوب ومستحسن إلهيًا في سياقه الصحيح، شريطة عدم الإسراف وتجاوز الحدود. لذلك، فإن التخلي المطلق عن النعم لمجرد التخلي ليس هدف الإسلام. في الواقع، النعم الإلهية هي اختبارات لقياس الشكر وكيفية إدارة الإنسان، واستخدامها الصحيح هو بحد ذاته جزء من العبادة. ومع ذلك، يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا على أهمية «عدم التعلق» بالدنيا ونعمها. المشكلة ليست في النعم نفسها، بل في التعلق المفرط بها ونسيان الهدف الأساسي من الخلق ورحلة الإنسان نحو ربه. عندما تصبح النعم، بدلاً من أن تكون وسائل للوصول إلى القرب الإلهي، أهدافًا بحد ذاتها، أو تلهي الإنسان عن ذكر الله، فحينئذٍ يمكن أن تعيق النمو الروحي. في هذا السياق، يشير «الترك» إلى التحرر من التبعية وتخليص القلب من قيود الماديات، وليس بالضرورة التخلي الجسدي عن جميع النعم. هذا التعلق المفرط بالدنيا يمكن أن يؤدي إلى الغرور والتكبر والبخل والمنافسة غير الصحية، وكلها آفات للروح البشرية تبعدها عن طريق الكمال. الهدف هو الوصول إلى حالة يكون فيها الإنسان مالكًا للنعم، لا عبدًا لها. هناك أمثلة واضحة على التخلي الهادف عن بعض النعم لتحقيق النمو الروحي في القرآن. المثال الأبرز هو «الصيام». في سورة البقرة الآية 183، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». الصيام يعني الامتناع الواعي والطوعي عن الأكل والشرب وبعض الملذات المشروعة الأخرى في ساعات محددة. هذا التخلي المؤقت والهادف ليس مجرد عبادة، بل هو أداة قوية لتقوية الإرادة، والتحكم بالنفس، وإدراك حال المحرومين، والوصول إلى مقام التقوى. هذه التقوى بحد ذاتها تعتبر قمة النمو الروحي. في الصيام، يتعلم الإنسان أن يضع جسده تحت سيطرة روحه وأن يدير الشهوات، بدلاً من أن يكون عبدًا لها. هذه الممارسة تعزز فيه الإحساس بالعبودية الخالصة لله وتُحرره من أسر الرغبات النفسية، وتذكّره بأن القوة الحقيقية تكمن في التخلي لا في التمسك. مثال آخر هو «الإنفاق» (بذل المال). في سورة آل عمران الآية 92، يقول الله تعالى: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». المال والثروة نعمة من الله، والإنسان بطبيعته يميل إليهما. بذلهما، خاصة الجزء المحبب والمحتاج إليه، هو نوع من التخلي الطوعي والتضحية. هذا العمل لا يلبي احتياجات المحتاجين فحسب، بل يطهر روح الإنسان من البخل والتعلق بمال الدنيا. الإنفاق يحرر القلب من حب الدنيا ويقرّبه من حب الله. هذا التحرر من القيود المادية والعطاء لوجه الله هو أحد أبرز علامات النمو الروحي. فمن يستطيع أن يتخلى عما يحب في سبيل الله، يكون قد وصل إلى مرتبة من الإيثار والتضحية تقربه من الكمال، ويجعله يدرك القيمة الحقيقية للأمور ويعلم أن الثروة الحقيقية في العطاء والمساعدة. وكذلك، في الأوقات التي يجاهد فيها الإنسان في سبيل الله أو يتعرض للصعوبات والمشقات في طريق الحق، فإنه يتخلى عن راحته ورفاهيته (التي هي نعمة). الصبر على الشدائد والثبات على طريق الحق هو نوع من التخلي عن الملذات الدنيوية الزائلة لتحقيق رضوان الله وقربه. هذا الصبر والإيثار يوسعان القدرات الروحية للإنسان ويهيئانه لتحمل مسؤوليات أكبر. في الواقع، يتحقق النمو الروحي عندما يستطيع الإنسان أن يذبح رغباته النفسية في سبيل إرادة الله وما يحبه الله. هذا الجهاد الأكبر، وهو الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، هو قمة ترك الشهوات لتحقيق النمو الروحي. لذلك، فإن التخلي عن بعض النعم في القرآن لا يعني تجاهلها أو تحريم ما هو حلال، بل يعني: 1. عدم التعلق القلبي: تحرير القلب من أسر الماديات، بحيث لا يؤثر وجودها أو عدم وجودها على هدوء الإنسان ومسار عبوديته. هذه الحالة القلبية توصل الإنسان إلى مقام التوكل والرضا. 2. الاستخدام الهادف: توظيف النعم في سبيل رضا الله وتحقيق الكمال، وعدم الغرق فيها. النعم هي وسائل للوصول إلى هدف أكبر، وليست الهدف الرئيسي. 3. التضحية والإيثار: الاستعداد للتخلي عن بعض النعم عند الضرورة ولتحقيق أهداف أسمى (مثل الصيام والإنفاق والجهاد). هذه التضحيات تدل على صدق الإيمان وعمق العبودية. هذا النوع من «الترك» أو «التخلي» عن النعم هو في الحقيقة نوع من التدريب لتقوية الإرادة، وتزكية النفس، وتطهير الروح. إنه لا يعني الفقر والحرمان المتعمد بلا هدف، بل يعني الغنى الروحي والتحرر من قيود المادية. بهذه التدريبات، يسيطر الإنسان تدريجياً على نفسه الأمارة، ويطهر قلبه من كل ما سوى الله. هذا النقاء والإخلاص هو النمو الروحي الحقيقي الذي يوصله إلى مقام القرب الإلهي ويضمن له حياته الآخرة. في النهاية، يعلمنا القرآن أن الدنيا مزرعة للآخرة؛ نعمها بذور، وحصادنا منها سيحدد النتائج الأبدية. التخلي الذكي والهادف عن بعضها هو بمثابة ري هذه البذور والعناية بها للحصول على محصول أكثر وفرة. هذا التخلي هو عين الوصل، وهذا البعد هو عين القرب.
يُروى أن درويشين كانا يسافران معًا في الأزمنة القديمة. أحدهما كان يأكل خبزًا جافًا دائمًا ويشكر الله، بينما الآخر كان يتذمر باستمرار من عدم وجود طعام أفضل. في أحد الأيام، وصلا إلى مدينة. ذهب الدرويش القنوع إلى المسجد للصلاة. أما الدرويش الثاني، الذي كان دائم الشكوى، فذهب إلى السوق وبدأ يتجول. بعد فترة، خرج الدرويش القنوع من المسجد بقلب هادئ ورأى صديقه يعود من السوق بوجه عابس. سأله: «ماذا حدث؟» أجاب صديقه: «لا شيء! رأيت سوقًا مليئًا بالنعم والأطعمة اللذيذة، لكن لم يكن لدي منها شيء لأكله، وازداد قلبي شوقًا إليها.» ابتسم الدرويش القنوع وقال: «صديقي، القناعة كنز لا يفنى. إذا سلمت قلبك للقليل، تحررت روحك، وإذا تعلقت بالكثير، ستبقى عبدًا دائمًا. ما يبعدك عن الله ليس نعمة، بل حجاب.» هذه القصة تعلمنا أن التخلي عن التعلق بما لا نملكه أحيانًا، أو الاكتفاء بالقليل، هو طريق للوصول إلى السلام والغنى الحقيقي للروح.