الأمل المفرط دون عمل وتقوى يمكن أن يؤدي إلى الغفلة، لأنه يخلق إحساساً زائفاً بالأمان ويسبب التسويف في أداء الواجبات الدينية والأخلاقية. في الإسلام، التوازن بين الأمل والخوف من العدل الإلهي ضروري لمنع الغفلة.
لقد طرحتم سؤالاً عميقاً ومحورياً للغاية، يحمل أهمية كبرى في فهم التعاليم القرآنية ومسار السلوك الروحاني. هل يؤدي الإفراط في الأمل إلى الغفلة؟ للإجابة على هذا السؤال، يتطلب الأمر توضيحاً دقيقاً لمفهوم "الأمل" في الثقافة القرآنية والإسلامية، وتمييزه عن "الأماني الخاطئة" أو "الغرور". بشكل عام، الأمل في رحمة الله تعالى ليس مذموماً أبداً، بل هو ركن من أركان الإيمان ومحرك أساسي للتحرك نحو الكمال. يدعو القرآن الكريم عباده باستمرار إلى عدم اليأس من رحمة الله، ويؤكد أن أبواب التوبة والعودة مفتوحة دائماً. ومع ذلك، إذا خرج هذا الأمل نفسه عن إطاره الصحيح، وبدلاً من أن يصبح عاملاً للجهد والعمل الصالح، تحوّل إلى ذريعة للتراخي، والكسل، وترك الواجبات الدينية والأخلاقية، حينئذٍ يمكن أن يؤدي حقاً إلى "الغفلة". "الغفلة" في المصطلح القرآني تعني عدم الوعي، ونسيان الهدف الأساسي من الخلق، وعدم الانتباه إلى الآيات الإلهية. الغفلة آفة خطيرة تميت الروح الإنسانية وتبعد الإنسان عن طريق الحق. يحذر القرآن الكريم مراراً وتكراراً البشر من الغفلة ويذم الغافلين. والآن، دعونا نرى كيف يمكن أن يغذي "الأمل المفرط" هذه الحالة من الغفلة. يؤكد الإسلام على "التوازن" في جميع جوانب الحياة، وهذا المبدأ يسري أيضاً في المجال الروحاني. فالمؤمن الحقيقي يحلق دائماً بين جناحين: "الخوف" (الخوف من العدل الإلهي وعواقب الذنوب) و"الرجاء" (الأمل في رحمة الله ومغفرته). إذا أصبح جناح الرجاء قوياً جداً وضعف جناح الخوف، فلن يكون الطيران متوازناً، والسقوط سيكون حتمياً. الأمل بلا حدود، دون الانتباه إلى المسؤوليات والواجبات، يمكن أن يدفع الإنسان إلى هذا التصور الخاطئ بأن رحمة الله واسعة لدرجة أنه لا داعي للجهد لتجنب الذنوب أو لأداء الواجبات. هنا يقع الإنسان في نوع من "الأمان الزائف". يرى نفسه تحت رعاية الرحمة الإلهية اللامتناهية، حتى لو كان غارقاً في الذنوب، وهذا الشعور بالأمان الزائف يمنعه من اليقظة والانتباه لعواقب أفعاله. يقول القرآن الكريم في سورة الأعراف، الآية 99: "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (أَفَأَمِنَ هَؤُلَاءِ مَكْرَ اللَّهِ وَأَخْذَهُ لَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْهَالِكُونَ أَيِ الْخَاسِرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). "مكر الله" هنا يشير إلى تدبير الله وسنته التي قد تحيط بالمذنب فجأة، حتى لو ظن نفسه آمناً. هذه الآية تحذير جاد لأولئك الذين، بناءً على أمل واهٍ، يعتبرون أنفسهم في مأمن من عواقب أعمالهم، وهذا بحد ذاته بداية الغفلة. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي الأمل المفرط إلى "تأخير التوبة" و"طول الأمل". قد يبرر الشخص الغافل بأن "الله غفور وأنا سأتوب لاحقاً"، مما يؤدي إلى تأجيل أداء الواجبات ويزيده جرأة في ارتكاب المحرمات. قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "طول الامل ينسي الآخرة". ونسيان الآخرة هذا هو عين الغفلة. الإنسان الذي يعلق آماله على مستقبل بعيد، ويتصور أن لديه فرصاً لا تحصى للتصحيح، يغفل عن اللحظة الراهنة والفرص الذهبية للحياة. هذا النوع من الأمل، ليس بناءً، بل يؤدي إلى خمول وتراخٍ دائم يعيق الحركة والتقدم الروحاني. كما يقول القرآن الكريم في سورة لقمان، الآية 33: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" (يا أيها الناس اتقوا ربكم وخافوا يوماً لا يغني والد عن ولده ولا ولد عن والده شيئاً. إن وعد الله ببعث الأموات ومحاسبة الأعمال حق، فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا عن العمل للآخرة، ولا يخدعنكم الشيطان بوعوده الباطلة وتأخير التوبة وزعم أن الله سيتجاوز عنكم). تشير عبارة "وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" بوضوح إلى أن الخداع (الشيطان) يمكن أن يضلل الإنسان بزرع آمال كاذبة وطمأنينة لا مبرر لها في رحمة الله، وبالتالي يخرجه عن المسار الصحيح. وهذا الخداع هو بالضبط ما يؤدي إلى الغفلة. عندما يعتقد الإنسان أنه بمجرد الاعتماد على رحمة الله، دون عمل وجهد، يمكنه النجاة، فإنه يوقع نفسه في فخ الغفلة. الأمل الحقيقي في الإسلام هو الأمل الذي يقترن بالعمل. هذا الأمل هو قوة دافعة، وليس وسادة مريحة للنوم. المؤمن الحقيقي هو من يسعى ويجاهد باستمرار، وفي الوقت نفسه، يجد الطمأنينة بالتوكل على الله والأمل في لطفه. فهو لا يصيبه اليأس الذي يمنعه من الحركة، ولا يصيبه الغرور والأمان الزائف الذي يجره إلى الغفلة. هذا التوازن الدقيق هو سر النجاح في الحياة الدنيا والسعادة الأخروية. إذاً، الأمل الزائد عن الحد دون سند من العمل والتقوى، ليس فضيلة، بل يمكن أن يصبح أكبر عائق في طريق اليقظة الروحية وبوابة نحو هوة الغفلة. لذا، فالإجابة هي نعم؛ الأمل المفرط الذي يصاحبه التقاعس والإهمال وعدم تحمل المسؤولية، يمكن بالتأكيد أن يؤدي إلى الغفلة.
يُروى أن تاجراً ثرياً، كان دائم التفكير في البحر، وكان يودع ثرواته في رحلات بحرية خطرة، أملاً في ثراء لا حدود له. كان يفرط في الأمل بفضل الله وحظه، لدرجة أنه غفل عن حساباته وإدارة أمواله. نصحه صديق له قائلاً: "يا أخي، الأمل بالله حسن، ولكن التدبير والسعي أفضل. السفينة تسير في البحر بالرياح المواتية، لكن إذا جلس القبطان متكلاً على الريح وحدها وغفل عن المرساة والأشرعة، فقد تغرق." ابتسم التاجر وقال: "الأمر كله بيد الله وهو الرزاق." أدى هذا الموقف به إلى الإهمال ومنعه من الاهتمام بشؤونه. وذات يوم، جاءه الخبر بأن إحدى سفنه قد غرقت في عاصفة، وذهبت كل ثروته أدراج الرياح. حينها أدرك أن الأمل بلا عمل لا يجلب سوى الغفلة والندم، وأن المرء يجب أن يقرن دائماً جناح الهمة بجناح التوكل.