نعم، الله سبحانه وتعالى يرى ويدرك كل أحزانك وأفكارك ومشاعرك الخفية، فعلمه يشمل الظاهر والخفي، وهو أقرب إلى القلوب من أي شيء آخر. هذا الإدراك الإلهي يجلب الراحة والطمأنينة للعباد.
من أعمق الحقائق التي تجلب الطمأنينة في الرؤية القرآنية للعالم، هي أن الله سبحانه وتعالى ليس فقط على علم بأفعالنا الظاهرة، بل هو عليم تمامًا بكل ما يدور في أعماق قلوبنا وأفكارنا، بما في ذلك أحزاننا وآلامنا الخفية. الإجابة على هذا السؤال هي 'نعم' قاطعة ولا لبس فيها. فالله، بلا أدنى شك، لا يرى أحزانك الخفية فحسب، بل هو مطلع تمامًا على أدق وسوسة في النفس، وعلى كل فكرة لم تنطق بها، وعلى كل آهة محبوسة في الصدر، وعلى كل دمعة خفية تسقط. هذه الحقيقة ليست مجرد دليل على عظمة الله وعلمه اللامتناهي، بل هي أيضًا مصدر عظيم للراحة والأمل والسلوان للمؤمنين. يؤكد القرآن الكريم في آيات عديدة وبتعابير متنوعة على حقيقة أن علم الله يحيط بكل شيء. فهو 'عليم بذات الصدور'، وهذا يعني أنه حتى لو كنت تخفي آلامًا عميقة في قلبك، آلامًا لا تستطيع التعبير عنها بكلمات أو تتجنب البوح بها خوفًا من حكم الآخرين، فإن الله على دراية تامة بكل ذلك. لا يوجد حجاب أو ستار يمكن أن يخفي شيئًا عن رؤيته وعلمه، فكيف بالحالات الداخلية للإنسان الذي هو من خلقه. على سبيل المثال، في سورة ق (الآية 16) نقرأ: 'وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ' (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدثه به نفسه، ونحن أقرب إليه من وريده). تُظهر هذه الآية بوضوح أن الله يعلم حتى الهمسات والأفكار الخفية للنفس البشرية، حتى قبل أن تتحول إلى كلمات أو تظهر بشكل خارجي. كما أن تعبير 'أقرب إليه من حبل الوريد' يصور أقصى درجات العلم والإحاطة الإلهية؛ بمعنى أنه لا توجد مسافة بين الله وبين باطن الإنسان. فهو لا يرى أحزاننا الخفية فحسب، بل يفهمها من منظور مثالي وشامل لا يمكن لأي إنسان أن يدركه. وكذلك، في سورة الملك (الآية 13) يقول تعالى: 'وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ' (وأخفوا كلامكم أو أظهروه، فإنه عليم بما في الصدور). وتؤكد هذه الآية أيضًا على علم الله المطلق بأخفى أسرار القلوب. فالأحزان الخفية، والأفكار المرة، والمخاوف والقلق الذي يُحبس في الصدر ولا ينطق به أبدًا، كلها ظاهرة تمامًا لله. وهذا العلم يشمل جميع أبعاد الوجود الإنساني، بما في ذلك جانبه العاطفي والنفسي. إن علم الله بأحزاننا الخفية يحمل آثارًا عميقة وجميلة. في المقام الأول، هو مصدر لا مثيل له للسلوان والراحة. ففي كثير من الأحيان، يعاني الناس من شعور بأن أحزانهم وآلامهم لا تُرى أو لا تُفهم. إن الشعور بالوحدة والعزلة في خضم المشاكل الخفية يلقي عبئًا نفسيًا ثقيلًا. ولكن الإيمان بأن خالق الأكوان هو المستمع لآهاتنا التي لم ننطق بها ومرتئى لدموعنا الخفية، يمكن أن يرفع هذا العبء الثقيل من الوحدة. هذا يعني أننا لسنا وحدنا أبدًا في معاناتنا؛ فهناك دائمًا عين رحيمة وعلم مطلق، يراقب ويدرك حالنا. هذا الشعور بالاتصال العميق مع الرب يمنح الإنسان القدرة على اللجوء إليه بكل كيانه، حتى لو لم يستطع العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عن ألمه. يكفي أن يتوجه إليه بقلبه؛ فهو يعلم ويفهم. ثانيًا، يحوّل هذا الإدراك الإلهي علاقتنا مع الله من علاقة رسمية بحتة إلى علاقة حميمة وشخصية. فعندما نعلم أن الله مطلع على أعمق مشاعرنا، يمكننا التحدث إليه بصدق أكبر وصراحة أعمق. ويكتسب الدعاء في هذا السياق معنى أعمق؛ فلا حاجة للتظاهر أو الإخفاء. يمكننا أن نتوجه إليه بكل ضعفنا ومخاوفنا وأحزاننا الخفية ونطلب منه المساعدة. هذا يعزز بشكل كبير من توكلنا على الله (الاعتماد الكامل عليه والثقة به). فعندما نعلم أنه ليس فقط قادرًا مطلقًا، بل يعلم كل تفاصيل معاناتنا أيضًا، تزداد ثقتنا في تدبيره ورحمته لحل مشاكلنا. ثالثًا، تذكرنا هذه الحقيقة بأن قيمة آلامنا وصبرنا الخفي عظيمة جدًا عند الله. ففي بعض الأحيان، يتحمل الناس مصاعب لا يعلم بها أحد، ويتحلون بالصبر تجاهها. هذا الصبر والتحمل، الذي قد يبدو بلا ثمر ظاهريًا، هو مرئي تمامًا عند الله ومُثاب عليه. كل نفس يُسحب مع ألم خفي، وكل جهد يُبذل للتغلب على مشكلة داخلية، كلها مسجلة ومحفوظة لديه ولن يضيع أجرها. هذا المنظور يساعد الأفراد على التحلي بقدر أكبر من الصبر في مواجهة صعوبات الحياة، لأنهم يعلمون أن المكافأة الحقيقية تأتي من الذي يعلم كل النوايا والمشقات الخفية. أخيرًا، يمنحنا هذا الإيمان بأن الله يعلم أحزاننا الخفية بصيرة عميقة في رحمته وحكمته الإلهية. ففي بعض الأحيان، يكون الألم والمعاناة جزءًا لا يتجزأ من الحياة، وحكمته تكون خفية عنا في البداية. ولكن عندما نعلم أن خالق الكون ومدبره مطلع على جميع أبعاد معاناتنا، يمكننا الاستسلام لقضائه بثقة أكبر والوثوق في الحكمة الخفية وراء البلايا والمصاعب. هذا الإدراك ليس فقط مريحًا، بل يفتح أيضًا طريقًا للنمو الروحي والمعنوي ويساعدنا على تحقيق السلام الحقيقي من خلال القبول والتوكل.
في زمان كان فيه الحكماء الفصحاء يحكمون القلوب، كان هناك درويش يحمل حزنًا ثقيلًا في قلبه، لكنه لم يتفوه بشكوى قط. في المجالس والتجمعات، كان وجهه هادئًا وعلى شفتيه ابتسامة رقيقة، وكأن لا ألم يؤذيه. ولكن في الليالي، وفي خلوة زاويته، كانت الدموع تنهمر بصمت على خديه، وقلبه يئن بأهات خفية. في أحد الأيام، مر على شيخ كبير كان يتذوق شهد الحكمة من بساتين المعرفة (إشارة إلى البستان والگلستان) ومطلعًا على أسرار القلوب. جلس الدرويش بصمت واحترام. نظر الشيخ الحكيم نظرة لطيفة ونافذة إلى الدرويش وقال: 'يا فتى، إن هذا الحمل الثقيل من الحزن الذي أخفيته في صدرك عن الخلق، ظاهر لخالقك. هو الذي يسمع آهة منتصف الليل ويرى الدمعة الخفية. لا حاجة لك بأن تنطق بكلمة؛ فقط سلم قلبك إليه وتوكل عليه بكل كيانك، فهو أعلم عباده وأرحم بالمبتلين.' عند سماع هذا الكلام، كأن حزنًا قديمًا سقط عن كتفي الدرويش. أدرك أنه لم يكن وحيدًا أبدًا، وأن آلامه الخفية كانت مرئية لمن هو العليم المطلق. حل سلام عميق في قلبه، وبقلب مطمئن، سجد لله شكرًا.