لا، التوكل على الله لا يعني التخاذل؛ بل هو بذل الجهد والسعي مع الثقة التامة بالله. يجب على الإنسان أن يبذل كل ما في وسعه ثم يترك النتائج لله ليجد الطمأنينة.
إن فهم مفهوم «التوكل» في الإسلام يُعد من المفاهيم الأساسية، وفي الوقت نفسه من أكثر المفاهيم التي يساء فهمها. قد يظن البعض خطأً أن التوكل على الله يعني التخلي عن السعي، والتقاعس، والتسليم المطلق لتقدير الله دون أي جهد بشري. ولكن التعاليم القرآنية والسنة النبوية الشريفة تُظهر بوضوح أن التوكل الحقيقي لا يعني التخاذل على الإطلاق، بل هو مكمل ونتيجة للسعي والاجتهاد الفعال. يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى الحركة، والعمل، والاجتهاد، والمثابرة، ولا يشجعه أبدًا على الكسل أو الخمول. بل يطرح التوكل كمرحلة من مراحل الطمأنينة القلبية والثقة بالعون والتدبير الإلهي، وذلك بعد الأخذ بجميع الأسباب والوسائل الضرورية. لقد أكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على أهمية العمل والجهد. ففي سورة التوبة، الآية 105 يقول الله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، أي: «وقل: اعملوا؛ فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون؛ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون». هذه الآية تأمر صراحة بالعمل والاجتهاد، وترفض أي تصور للتقاعس تحت مسمى التوكل. فالثواب والعقاب في الدنيا والآخرة مبنيان على عمل الإنسان. كما نقرأ في سورة النجم، الآية 39: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ»، والتي توضح بجلاء أن الإنسان لا يملك شيئًا إلا ما سعى واجتهد فيه. هذه الآية تُثبت أصالة وأهمية السعي والاجتهاد في الحياة كمبدأ إسلامي أساسي. فالرزق، والنجاحات الدنيوية والأخروية، كلها نتائج لجهد الإنسان وسعيه؛ وتوقع تحقيقها دون جهد يتعارض مع منطق القرآن. من أهم الآيات في سياق التوكل هي الآية 159 من سورة آل عمران، التي توضح العلاقة بين اتخاذ القرار، والعمل، والتوكل بشكل جميل: «...فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ». هذه الآية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه المؤمنين، بالتوكل على الله بعد التشاور واتخاذ القرار الحاسم (العزم). هذا يعني أن التوكل يأتي بعد العزم، وبعد استخدام العقل والجهد لتحقيق الهدف، وليس قبله. يجب على الإنسان أولاً أن يفكر، ويتشاور، ويخطط، ويتخذ القرار، ويبذل كل ما في وسعه من جهد؛ وعندما يستوفي جميع الأسباب الظاهرية ويصل إلى أقصى ما يستطيع من جهد، حينها يسلم النتيجة النهائية لله تعالى. هذا هو المعنى الحقيقي للتوكل: الثقة بالله بعد بذل قصارى الجهد. التوكل الحقيقي هو حالة قلبية تحرر الإنسان من المخاوف والقلق غير المبرر. فعندما يبذل الفرد كل ما بوسعه، لا يعود بحاجة للقلق المفرط بشأن النتيجة. فهو يسلم النتيجة إلى القدرة الإلهية المطلقة التي لا توجد قوة أعظم منها. وهنا تبرز أهمية الآية 3 من سورة الطلاق: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»، أي: «ومن يتوكل على الله فهو كافيه». هذه الآية تمثل ضمانة إلهية لأولئك الذين يسلمون أمرهم لله بعد الجهد والسعي. سيكون الله كافيهم ووكيلهم، وسيفتح لهم طرقًا لم يكونوا قادرين على تصورها بأنفسهم. علاوة على ذلك، يرتبط مفهوم التوكل ارتباطًا مباشرًا بـ «التغيير». ففي سورة الرعد، الآية 11 جاء قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». هذه الآية تُشير بوضوح إلى أن الله لا يغير حال أي قوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم. وهذا التغيير يستلزم الحركة، والجهد، ونقد الذات، والتخطيط، والإقدام العملي. لذلك، فإن انتظار التغيير وتحسن الأوضاع بالتوكل اللفظي فقط ودون اتخاذ خطوات عملية، لا يتوافق مع التعاليم القرآنية فحسب، بل يدل على سوء فهم لمفهوم التوكل. التوكل هو دافع للعمل وليس مدعاة للجمود؛ فهو يمنح الإنسان دافعًا للمضي قدمًا بعزيمة ومثابرة أكبر نحو أهدافه، لأنه يعلم أن جهده لن يذهب سدى وأن الدعم الإلهي سيكون معه. وفي الختام، التوكل الصحيح في الإسلام هو فضيلة نشطة تجمع بين الجهد الدؤوب والثقة القلبية العميقة بالله تعالى. التوكل يعني أن الإنسان يستعمل جميع الأسباب والوسائل المادية ويؤدي واجبه، ولكنه لا يربط قلبه بهذه الأسباب، بل يعتقد أن التأثير الحقيقي هو من عند الله. هذا المنظور يمنح المؤمن الطمأنينة والثقة بأنه حتى لو لم تتحقق النتيجة المرجوة، فإن في ذلك خيرًا وحكمة؛ لأنه قد بذل ما في وسعه وسلم الأمر برمته إلى الحكيم المطلق. التوكل لا يؤدي إلى الكسل ولا إلى اليأس، بل يمنح الإنسان الشجاعة ليواجه التحديات ويبذل قصارى جهده، وينتظر فضل الله بقلب مطمئن. هذا التوكل هو الذي يحرر الإنسان من قيود القلق والهموم غير المجدية، ويمنحه القوة للمضي قدمًا نحو أهدافه بإرادة ثابتة وروح واثقة.
جاء في گلستان سعدي أن درويشًا معتزلاً كان يدعو الله كل يوم طالبًا الرزق، لكنه كان غافلاً عن السعي والعمل. في أحد الأيام، مرّ به رجل حكيم وسأله بلطف: «يا صاحبي، لماذا اخترت العزلة ولا تسعى للرزق من خلال الجهد؟» فأجاب الدرويش بثقة: «أنا أتوكل على الله، وهو الرزاق.» ابتسم الرجل الحكيم، وبنبرة حانية أجاب: «هذا ليس توكلاً حقيقيًا، فالجلوس وانتظار الرزق دون أي جهد هو عين التخاذل. ألم تسمع قول الله تعالى: 'وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ'؟ رزقك يأتي من خلال الكد والسعي. التوكل الحقيقي هو أن تزرع البذور وتوكل أمرك إلى فضل الله لينزل مطر رحمته، لا أن لا تزرع شيئًا وتكتفي بالنظر إلى السماء. قم واسعَ بجد واجتهاد، فالتوكل الحقيقي مرهون بالعمل والمثابرة.» أخذ الدرويش بنصيحة الرجل الحكيم، ونهض وانخرط في العمل، ورأى البركة والوفرة تتوالى بعد جهده، وتغيرت حياته إلى الأفضل.