هل يوجد شيء اسمه القدر حقًا؟

نعم، مفهوم القدر موجود في الإسلام، ولكنه لا يلغي إرادة الإنسان الحرة. فالله يعلم كل شيء، لكن الإنسان مسؤول عن اختياراته وجهوده بإرادته الحرة، ويمكنه تشكيل مسار حياته بالسعي والتوكل على الله.

إجابة القرآن

هل يوجد شيء اسمه القدر حقًا؟

سؤال "هل يوجد شيء اسمه القدر حقًا؟" هو أحد أعمق الأسئلة وأكثرها جوهرية التي لطالما شغلت العقل البشري. في التعاليم الإسلامية، وخاصة في القرآن الكريم، يتم شرح مفهوم القدر بطريقة شاملة ومتوازنة، تجمع بين عظمة علم الله وقدرته، وتؤكد في الوقت نفسه على إرادة الإنسان الحرة ومسؤوليته. الإجابة القاطعة على هذا السؤال من منظور القرآن هي "نعم"؛ ومع ذلك، فإن هذا "القدر" ليس، كما يتصور الكثيرون، مرادفًا للنفي التام لإرادة الإنسان الحرة أو الجبر المطلق. في الحقيقة، الفهم الصحيح لهذا المفهوم من المنظور القرآني لا يسلب الإنسان قدرته على الاختيار، بل يدفعه نحو السعي والأمل والتوكل الواعي على الله. يصرح القرآن الكريم بأن الله تعالى يمتلك علمًا كاملاً وإحاطة تامة بجميع أحداث الكون، من الأزل إلى الأبد. لا تسقط ورقة من شجرة، ولا تنمو حبة في باطن الأرض، إلا بعلمه وإذنه. يشمل هذا العلم الإلهي جميع أفعال البشر وقراراتهم أيضًا. في سورة الحديد، الآية ٢٢، نقرأ: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير). تشير هذه الآية بوضوح إلى خطة إلهية عامة وتسجيل جميع الأمور في "اللوح المحفوظ"، مما يدل على إحاطة علم الله الشامل لكل شيء. هذا هو الجانب من القدر الذي يشير إلى التدبير الإلهي والمعرفة المطلقة لله، وهي معرفة تشمل كل ظاهرة قبل وقوعها. وهذا يعني أن الله مسبقًا يعلم كل ما سيحدث، وهذا العلم جزء من كماله وعظمته. لكن إلى جانب هذا العلم الإلهي الشامل، يؤكد القرآن بشدة على مفهوم "الإرادة الحرة" و"الاختيار" للإنسان. فالإنسان كائن مخير يمتلك القدرة على الاختيار بين طريق الخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية. هذه الإرادة الحرة هي التي تشكل أساس تكليف البشر ومسؤوليتهم أمام الله وعدل يوم القيامة. فلو كان الإنسان مجبورًا على فعل شيء، لما كان للثواب والعقاب معنى، ولما كان للعدل الإلهي مبرر. تؤكد آيات عديدة على هذا الاختيار؛ على سبيل المثال، في سورة الكهف، الآية ٢٩، جاء: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). هذه الآية تعلن صراحة أن اختيار الإيمان أو الكفر هو في يد الإنسان نفسه، وليس إجبارًا محددًا مسبقًا. وهذا يعني أن الله قد بين الطريق ومنح الإنسان حرية الاختيار ليتخذ قراراته بنفسه ويتحمل مسؤولية تلك القرارات. هذه الحرية في الاختيار هي حجر الزاوية للمسؤولية الشرعية والأخلاقية في الإسلام. إن شرح هذين المفهومين جنبًا إلى جنب هو المفتاح للفهم الصحيح "للقدر" في الإسلام. يمكن القول إن الله يعلم ما سنفعله، لكن هذا "العلم" لا يعني "الإلزام". فعلم الله هو علم بتحقق اختياراتنا، وليس سلبًا لاختيارنا. بعبارة أخرى، توجد مسارات مختلفة أمام الإنسان، والله يعلم أي مسار سيختاره الإنسان بإرادته واختياره، وما ستكون نتيجته. هذا هو القدر الذي يتحقق بإرادة الإنسان الحرة. وهذا المفهوم يمنح الإنسان راحة البال؛ لأنه يعلم أن ما لا يمكنه فعله بيديه هو في قبضة القدرة المطلقة الحكيمة، وما هو في يده يتطلب منه الجد والاجتهاد. هذا الفهم للقدر يمنح الإنسان الأمل في أنه يستطيع بتغيير سلوكه وأعماله، أن يغير مسار حياته نحو السعادة، بينما يتوكل في النهاية على حكمة الله وعلمه اللامتناهي. لذا، يرى الإسلام الإنسان كائنًا ديناميكيًا ومسؤولًا، ليس مجرد ضحية للقدر، بل يمكنه تشكيل مستقبله بإرادته وأفعاله، مع الاعتماد الكلي على حكمة الله وعلمه اللامتناهي. يشجع القرآن الكريم الإنسان على الجهد والسعي وتغيير حاله. ففي سورة الرعد، الآية ١١، يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). تدل هذه الآية على أن السعادة والشقاء، والنجاح والفشل، يعتمدان إلى حد كبير على اختيارات الإنسان وجهوده. فإذا جلس فرد مكتوف الأيدي وقال "هذا قدري" وتخلى عن الجهد والسعي، فإنه في الواقع قد أعرض عن التعاليم القرآنية، وسيتحمل مسؤولية عواقب ذلك. الإنسان مسؤول عن أفعاله، ونتائج أفعاله تعود إليه. هذه الآية توضح فلسفة المسؤولية الفردية والجماعية، وتبرز أهمية العزيمة والإرادة في تحقيق الأهداف وتغيير الظروف. التغيير من الداخل، أي إصلاح النوايا والأفكار والأعمال، هو شرط أساسي لتغيير الوضع الخارجي. لذلك، فإن "القدر" بمعنى الجبر المطلق الذي لا مفر منه، مرفوض في الإسلام. يجب فهم القدر في بعدين: 1. القدر الحتمي وغير القابل للتغيير (القدر المحتوم): يشمل هذا الأمور التي تخرج عن نطاق اختيار الإنسان، مثل وقت ومكان الولادة، الجنس، الجنسية، لون البشرة، وبعض الكوارث الطبيعية كالزلازل أو العواصف التي لا يملك الإنسان عليها تحكمًا. هذه جزء من التدبير الإلهي الذي لا يمتلك الإنسان دورًا في وقوعه، ويجب عليه الإيمان بحكمتها والتسليم للقضاء الإلهي. قبول هذا الجانب من القدر يمنح الإنسان راحة البال ويحرره من القلق غير الضروري حول ما هو خارج عن سيطرته. 2. القدر المشروط والقابل للتغيير (القدر المعلق): تقع الغالبية العظمى من قدر الإنسان في هذه الفئة. فالنجاح في الدراسة، اختيار الزوج/الزوجة، العمل، الصحة الجسدية (إلى حد ما)، والعديد من جوانب الحياة، لا تتغير فقط بجهد الإنسان وسعيه، بل حتى الدعاء والتوسل يمكن أن يكون لهما تأثير في تغييرها. هنا يظهر دور الإرادة الحرة للإنسان كعامل محوري، وتؤثر أفعاله في تشكيل مستقبله. على سبيل المثال، إذا بذل الفرد جهدًا للنجاح الأكاديمي، فإن احتمالية نجاحه أكبر بكثير من شخص لا يبذل أي جهد. لقد فتح الله الطريق أمام الإنسان وهداه نحو فعل الخير واختيار المسار الصحيح، ولكن لا يوجد إجبار. هذا الجانب من القدر يمنح الإنسان القدرة على تشكيل مصيره من خلال المسؤولية والسعي المستمر، مستفيدًا إلى أقصى حد من الفرص التي منحه الله إياها. هذا المنظور يقيم توازنًا بين التوكل على الله والجهد والسعي. المؤمن الحقيقي هو الذي يسعى بلا كلل، وفي الوقت نفسه، يترك النتائج لله، عالمًا أن الخير والشر في النهاية بيده. لا ييأس أبدًا من رحمة الله، ويثق بحكمة الله حتى في الشدائد. هذا الفهم للقدر يمنح الإنسان راحة البال؛ لأنه يعلم أن ما لا يمكنه فعله بيديه هو في قبضة القدرة المطلقة الحكيمة، وما هو في يده يتطلب منه الجد والاجتهاد. يمنح هذا المفهوم الإنسان الأمل في أنه يستطيع بتغيير سلوكه وأعماله، أن يغير مسار حياته نحو السعادة، بينما يتوكل في النهاية على حكمة الله وعلمه اللامتناهي. هذا التوازن بين الجبر والاختيار يقدم نظرة عميقة وعملية للحياة، ويشجع الإنسان على السير دائمًا في طريق التقدم وتطوير الذات، مع العلم بأن كل جهد سيلقى استجابة من الإرادة الإلهية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يروى أنه في زمن سعدي الشيرازي، كان هناك درويش يجلس دائمًا في زاوية، ويقول: "ما قدر لنا سيصل إلينا، فلماذا نسعى؟" وكان يدعو باستمرار أن يأتيه رزقه دون جهد. في يوم من الأيام، مر سعدي به ورأى الدرويش يشكو من فقره. فقال سعدي بابتسامة دافئة: "يا صديقي، يجب فهم القدر جيدًا. قصتك كقصة شخص أراد أن يمتلئ بيته بالرزق، ولكنه لم يذهب أبدًا إلى السوق، وانتظر أن تأتي الفاكهة إلى بيته بمفردها. اعلم أن الحق تعالى هو الرزاق، ولكنه أيضًا مهد الطريق للحصول على الرزق. فالماء يجري في النهر ليشرب منه العطشان، ولكن يجب أن تأخذ كوبًا وتذهب إلى النهر. القدر ليس لتقييد يدي الإنسان وقدميه ومنعه من الحركة؛ بل يدعوه إلى الجهد والأمل. فالتوكل على الله لا يجتمع مع الكسل والخمول. قم واسعَ لكي تستفيد من رحمة الله وتتحرر قلبك من القلق." استمع الدرويش لنصائح سعدي، وقام وانشغل بالعمل، ورأى أن رزقه، بفضل الله وجهده، أصبح وفيرًا، ووجد الطمأنينة.

الأسئلة ذات الصلة