القرآن يقدر العقل تقديرًا عاليًا ويعتبره أداة مهمة لفهم الآيات الإلهية؛ ولكنه ليس كافيًا وحده للهداية الكاملة، بل يحتاج بالضرورة إلى الوحي الإلهي الذي يعتبر المرشد القطعي والمعصوم للجوانب الغيبية والتشريعية في حياة الإنسان.
يُعظم القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية، مكانة العقل والفكر في مسيرة الخلاص البشري بطريقة فريدة وعميقة. في المنظور القرآني، العقل ليس مجرد أداة للمعرفة، بل هو هبة إلهية ونور داخلي يمكّن الإنسان من إدراك آيات عظمة الخالق في الآفاق والأنفس، والتمييز بين الحق والباطل. توجد آيات كثيرة في القرآن تدعو إلى التفكر والتدبر والتعقل والتذكر، وتحث البشر على استخدام ملكة عقولهم. يلوم الله تعالى في القرآن مرارًا أولئك الذين لا يستخدمون عقولهم ويتبعون أسلافهم أو أهواءهم النفسية بشكل أعمى. على سبيل المثال، عبارات مثل "أَفَلَا يَعْقِلُونَ" (أفلا يعقلون؟)، و"لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، و"لِأُولِي الْأَلْبَاب" (لأولي الألباب) تتكرر في القرآن، وكلها تؤكد على أهمية العقل والتدبر. العقل، في هذا الإطار، هو جسر للوصول إلى معرفة الله، وفهم حقيقة الدين، وتمييز الطريق الصحيح من الضلال. بالإنسان أن يدرك بعقله النظام البديع للكون، والحكمة الكامنة في الخلق، وأسباب نبوة الأنبياء. هذه الأداة الثمينة تحرر الإنسان من التقليد الأعمى وتدفعه نحو البحث والتحقيق. ومع ذلك، يطرح السؤال الجوهري: هل العقل وحده يكفي للهداية الكاملة والشاملة للإنسان؟ الإجابة القاطعة للقرآن على هذا السؤال هي "لا". فبينما العقل أداة ضرورية ومهمة، إلا أنه بحد ذاته "أداة غير كافية" للهداية. يكمن سبب عدم الكفاية هذا في عدة نقاط أساسية: أولاً، القيود الذاتية للعقل البشري: العقل البشري، مهما بلغ من قوة، له قيود. يمكن دراسة هذه القيود من جوانب مختلفة. فالعقل غير قادر على إدراك جميع أبعاد الوجود، خاصة الغيب (العالم الخفي وما وراء الطبيعة). المسائل المتعلقة بالمعاد، وذات الله، وتفاصيل الجنة والنار، والعديد من الأحكام الشرعية التي لا يعلم مصالحها ومفاسدها إلا الله، تتجاوز الإدراك الكامل للعقل البشري. العقل عند مواجهة هذه المسائل، يكتفي بالتنظير والتخمين ولا يستطيع الوصول إلى اليقين المطلق. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتأثر العقل بالهوى النفسي، والميول الشخصية، والتحيزات الثقافية والاجتماعية، وبيئة التربية. هذه العوامل يمكن أن تحرف الأحكام العقلية وتقود الإنسان إلى الخطأ. تاريخ البشرية مليء بالمدارس الفكرية والفلسفات التي بنيت فقط على العقل، ولكنها وصلت إلى نتائج متضاربة وحتى مضللة. ثانياً، الحاجة إلى الوحي الإلهي: يصف القرآن الكريم نفسه بأنه "نور" (روشنی)، و"هدى" (هدایت)، و"بيان" (روشنگر) و"كتاب مبين" (کتاب آشکار). هذه التعبيرات تدل بوضوح على أن الله، لهداية الإنسان، قد رأى ضرورة لوجود مرشد خارجي موثوق به تمامًا ومعصوم من الخطأ، بالإضافة إلى قوة العقل. هذا المرشد هو الوحي الإلهي الذي أُرسل إلى البشرية عبر الأنبياء. يكشف الوحي حقائق للإنسان لا يستطيع العقل وحده اكتشافها. تشمل هذه الحقائق: المعرفة الشاملة بالله وصفاته، المسائل المتعلقة بعالم ما بعد الموت، الأنظمة الأخلاقية والقانونية الشاملة، والعبادات والاتصال بالخالق. وبالتالي، فإن وجهة نظر القرآن هي أن العقل والوحي متكاملان. العقل هو أداة لفهم الوحي، والاستدلال عليه، وتطبيقه في الحياة اليومية. والوحي بدوره يلعب دور البوصلة للعقل؛ يوجهه إلى الطريق الصحيح، ويصحح أخطائه المحتملة، ويمنحه بصيرة ومعرفة لم يكن ليحصل عليها وحده أبدًا. العقل بدون الوحي كالسفينة بدون قائد في بحر الحياة الهائج، والوحي بدون العقل قد يؤدي إلى السطحية والجمود. في الختام، يعلمنا القرآن أن السعادة الحقيقية والهداية الكاملة، مرهونة بالجمع بين العقل والوحي، والاستفادة من كليهما في طريق العبودية والحياة ذات المعنى. العقل يضيء الطريق، لكن الوحي يظهر الوجهة والاتجاه الصحيح لهذا الطريق. هذا المزيج القوي يمكّن الإنسان من تحقيق البصيرة والكمال في الشؤون الدنيوية والأخروية على حد سواء.
في بستان سعدي يروى: "سُئل حكيم جليل: ما هو العقل وما هي حدوده؟ فأجاب الحكيم: العقل مصباح يضيء في باطن الإنسان، وينير له الطريق. ولكن هناك فرق بين مصباح يحرق زيته بنفسه ونور يستمد من الشمس. فالعقل بدون الوحي، كمصباح في ليلة مظلمة، يضيء جزءًا صغيرًا فقط من محيطه، ويبقى الكثير من الطريق مخفيًا. أما عندما يسطع عليه نور الوحي، فإنه حينئذ يأخذ النور بنفسه وينير العالم كله." هكذا، كان هناك عالم فاضل وباحث، أمضى عمره في دراسة الفلسفة والمنطق، ولم يؤمن قط إلا بما يقبله عقله. لم يكن في قلبه سلام، وكان دائمًا يبحث عن إجابات نهائية. ذات يوم، في رحلته، التقى برجل عجوز مستنير، كان قد بلغ السكينة من خلال العلم الإلهي والمعرفة الباطنية. فسأله الفاضل: "يا شيخ، كيف توصلت إلى هذا اليقين والسكينة؟" فأجاب الرجل العجوز: "يا ولدي، عقل البشر وعلمه قيمان، ولكنهما كاليد التي تحتاج لشيء آخر لتمسك به. العقل وحده يمكن أن يرشد بقدر ما رأى وفهم. أما الحقيقة الكاملة، فتأتي من عالم الغيب الذي لم يأتِ بها إلا الأنبياء. عندما تضع نور الوحي بجانب العقل، حينها تنفتح عين قلبك وترى الحقيقة كاملة وواضحة." ومنذ ذلك الحين، بدأ العالم، بدلًا من الاعتماد الكلي على عقله، يتجه إلى الكلمة الإلهية، وحينها أشرق عقله أكثر ووجد قلبه السلام الحقيقي.