بدلاً من تقديم وصفة دقيقة ومحددة سلفاً لكل فرد، يقدم القرآن الكريم مبادئ وتوجيهات عامة وعالمية. تمكّن هذه المبادئ الإنسان من إيجاد مساره الفريد وبناء حياته ضمن الإطار الإلهي، معتمداً على إرادته الحرة وعقله.
القرآن الكريم، بصفته كلام الله ودليلًا شاملًا للبشرية، لا يقدم 'وصفة' فريدة ومحددة سلفًا لكل تفاصيل حياة كل إنسان على حدة، بل يقدم 'خارطة طريق' عالمية ومبادئ شاملة قابلة للتطبيق والاستفادة منها من قبل جميع البشر، في كل زمان ومكان. هذا تمييز أساسي وهام جدًا. القرآن الكريم هو كتاب إرشادي يوضح المبادئ والقيم والقوانين والرؤى والأهداف الكبرى لقيادة البشرية نحو السعادة في الدنيا والآخرة، لكنه لا يعني أبدًا أنه قد حدد لكل فرد اسمه ومهنته وزوجه وجميع قرارات حياته الصغيرة والكبيرة مسبقًا. في الواقع، جمال وعمق الهداية القرآنية يكمن في هذه الشمولية وقدرتها على التكيف مع الظروف الفردية والاجتماعية المتنوعة. من المنظور القرآني، الإنسان كائن حر، وقد وهبه الله العقل والإرادة والقدرة على الاختيار. هذه الإرادة الحرة هي العنصر الأساسي في مسؤولية الإنسان عن أفعاله. فلو كان القرآن يقدم لكل فرد نسخة شخصية بالكامل تحدد كل تفاصيل حياته، لانتفى بذلك معنى الإرادة الحرة والمسؤولية والابتلاء الإلهي. بدلاً من ذلك، يحدد القرآن الخطوط الحمراء، والقيم الأساسية، والأهداف النهائية، والمسارات العامة، ثم يدعو الإنسان لاستخدام عقله وبصيرته وتوكله على الله، لاتخاذ أفضل القرارات لحياته الفريدة في إطار هذه المبادئ. كل إنسان يأتي إلى هذه الدنيا بمواهب وقدرات وتحديات وظروف عائلية واجتماعية وقدرات روحية مختلفة، والقرآن بمبادئه العامة يستجيب لكل هذه الاختلافات. على سبيل المثال، يأمر القرآن بالعدل والإحسان والصدق والصبر والشكر والتقوى. هذه مفاهيم عالمية قابلة للتطبيق على كل إنسان في أي دور – سواء كان ملكًا أو فلاحًا، عالمًا أو عاملاً. لكن طريقة تجلي العدل في حياة القاضي تختلف عن طريقة تجليه في حياة الأب. لا يحدد القرآن لكل فرد أي وظيفة يجب أن يختارها أو من يتزوج، ولكنه يضع مبادئ لاختيار مهنة حلال وزواج ناجح (مثل التقوى والتشاور ورضا الطرفين). هذه المبادئ توفر مساحة للقرار الفردي بما يتناسب مع ظروف كل شخص. يقول الله تعالى في القرآن بوضوح: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، أي: "لا إكراه في الدين؛ فقد تبين الرشد من الغي." هذه الآية تؤكد بوضوح على حق الإنسان في الاختيار والإرادة الحرة، وتدل على أن طريق القرآن ليس طريقًا للإجبار، بل هو طريق للاختيار الواعي والهداية. كذلك، يؤكد القرآن بشدة على المسؤولية الفردية. ففي سورة المدثر، الآية 38، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، أي: "كل نفس بما كسبت مرهونة." هذه الآية والآيات المشابهة تبرز المسؤولية الفردية وتوضح أن كل إنسان سيكون مسؤولاً عن أعماله وخياراته، وليس مجرد تابع لنسخة محددة مسبقًا. هذه المسؤولية الفردية تدفع الإنسان للاجتهاد في المسار الإلهي، واختيار الأفضل، واستخدام قدراته الفريدة لتحقيق السعادة. وفي سورة الحجرات، الآية 13، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. هذه الآية تؤكد على تنوع البشر وتفرد كل منهم، وتذكر أن الهدف من هذا التنوع هو 'التعارف' المتبادل. هذا التنوع يعني اختلاف المواهب والقدرات والثقافات ومسارات الحياة، وكلها يمكن أن تصل إلى الكمال ضمن إطار المبادئ القرآنية. لا يقدم القرآن لهذه التنوعات وصفة واحدة وموحدة، بل يقدم معيارًا واحدًا (التقوى) لقياس قيمة البشر في كل وضع ومع كل قدرة. هذا يدل على أن كل شخص يجب أن يجد أفضل طريقة للوصول إلى التقوى والقرب الإلهي باستخدام أدواته وظروفه الخاصة. لذا، فإن القرآن ليس وصفة جامدة ومحددة لكل فرد، بل هو نور هداية ينير الطريق في ظلمات الحياة. هذا النور يمكّن كل إنسان، وفقًا لظروفه ومواهبه، من إيجاد مساره الفريد نحو رضا الله. يقدم القرآن إطارًا عامًا يتمتع فيه الإنسان بالحرية والمسؤولية ليبني حياته بأفضل شكل ممكن من خلال التفكير والاجتهاد والتوكل على الله. هذا النهج لا يتوافق فقط مع الكرامة الإنسانية، بل يوفر أيضًا أرضية للنمو الروحي والأخلاقي للفرد في مسار ديناميكي وشخصي. في النهاية، بدلاً من وصفة خاصة لكل إنسان، يمنح القرآن الأدوات والإرشادات لكل إنسان ليصوغ وصفته الخاصة بناءً على المبادئ الإلهية.
يُروى في گلستان سعدي أن درويشين ترافقهما في رحلة. أحدهما كان من أهل الصبر والقناعة، والآخر من أهل الشكر والسخاء. كلاهما سلك طريقًا ينتهي إلى وجهة واحدة، لكن أسلوب حياتهما وطريقتهما كانتا مختلفتين. فالدرويش القنوع كان يرى أن ما يجده يكفيه ليومه، بينما الدرويش السخي، كلما حصل على شيء، أعطى جزءًا منه للآخرين وادخر الباقي ليوم آخر. كلاهما بلغ الكمال ووصل إلى مقصده، لأن كل منهما سلك طريقه بناءً على فطرته وطبيعته، مع مراعاة المبادئ الحقيقية. هذه القصة الجميلة تذكرنا بأنه على الرغم من أن الوجهة واحدة، إلا أن الطرق للوصول إليها قد تكون متعددة، ويمكن لكل شخص، بما لديه وما هو عليه، أن يصل إلى الكمال، طالما سار في طريق الخير والفضيلة.