نعم، يؤكد القرآن الكريم مرارًا على أهمية الاستماع، خاصة لآيات الله والكلام الحق، ويعتبره طريقًا للهداية والرحمة والفهم الأعمق للدين. تتجاوز هذه الدعوة مجرد السمع، وتستلزم الانتباه والتأمل والعمل بما يُسمع.
نعم، إن القرآن الكريم، بلهجة حازمة وعطوفة في آن واحد، يدعونا باستمرار وتكرار إلى "الاستماع"؛ لكن هذه الدعوة تتجاوز مجرد فعل سمعي؛ إنها تعني "الاستماع بالقلب والروح"، و"الانتباه العميق"، و"التأمل والتدبر"، و"التلقي والفهم"، وأخيرًا "العمل" بما يُسمع. فالقرآن يقدم الاستماع ليس فقط كحاسة جسدية، بل كصفة بارزة للمؤمنين والمهتدين، ويعتبره بوابة للرحمة الإلهية، والفهم العميق للدين، وتمييز الحق من الباطل. تشمل هذه الدعوة الاستماع إلى الآيات الإلهية، والحكمة والنصيحة الحسنة، وحتى كلام الآخرين بهدف الفهم والتعاطف. إن هذه الجوانب المتعددة لـ "الاستماع" هي التي تضاعف أهميته في الإطار الفكري والعملي للإسلام. إحدى أوضح وأجمل الدعوات إلى الاستماع ترد في سورة الأعراف، الآية 204: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". هذه الآية تقدم توجيهًا واضحًا للتعامل مع كلام الله. فـ "الاستماع" يعني الاستماع بإرادة وقصد، أي تهيئة النفس لتلقي الرسالة، بينما "الإنصات" يعني الصمت وتوجيه كل الاهتمام للمتحدث، حتى لو كان ذلك يعني الامتناع عن الكلام نفسه. هذا الإنصات العميق يهيئ الأرض الخصبة لدخول نور الكلام الإلهي إلى القلب والروح. والرحمة الإلهية مرهونة بهذا الانتباه؛ لأنه بالاستماع المركز، تُدرك معاني الآيات بشكل أفضل، وتتضح الحقائق، ويقترب الإنسان من طريق الهداية. عندما يصغي القلب بكل وجوده لنداء الوحي، تُرفع الحُجب، وتنمو بذور الإيمان والتقوى في أرض القلب المهيأة. هذا النوع من الاستماع لا يؤدي فقط إلى تقوية الإيمان الفردي، بل يؤدي أيضًا، في سياق المجتمع، إلى خلق جو من الاحترام والانتباه للرسائل الإلهية. الكثير من المشاكل الفكرية والروحية التي يواجهها الإنسان المعاصر تنبع من غياب هذا "الإنصات" بالذات – هذا الانتباه العميق لمعاني الحياة والرسائل السماوية. الاستماع بهذه الجودة يُعد في الواقع نوعًا من العبادة يربط الإنسان بالمصدر الذي لا ينضب من المعرفة والحكمة الإلهية، ويسكب هدوءًا عميقًا في كيانه. ولهذا السبب يُنصح بتجنب أي مشتتات أثناء تلاوة القرآن، للسماح لروح الآية بالتغلغل في أعماق الروح وإظهار آثارها في سلوك الإنسان وأفكاره، ليبلغ الإنسان في نهاية المطاف مقام التسليم والرضا لأمر الله. إن هذه العملية ليست مجرد عمل سمعي؛ إنها تحول داخلي يبدأ بالأذن ويستقر في القلب. يصف القرآن الكريم المستمعين الحقيقيين بأنهم أفراد حكماء ومهتدون. في سورة الزمر، الآية 18، نقرأ: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ". هذه الآية تشير إلى أن الاستماع الفعال، ليس فقط لكلام الله، بل لأي قول يُقال، هو من سمات الأفراد المهتدين وذوي العقل النقي ("أولي الألباب"). هؤلاء الأفراد يمتلكون القدرة على التمييز بين الأقوال المختلفة، وهم قادرون على اختيار "الأحسن" واتباعه. وهذا "الأحسن" يمكن أن يشمل أفضل حجة، وأحكم نصيحة، وأنجع حل، وأفضل أسلوب حياة. في الواقع، الاستماع بطريقة نقدية وفي نفس الوقت متقبلة، يسمح للإنسان باختيار ما هو حق وصواب من بين الآراء والمعتقدات المتنوعة. هذه القدرة على التمييز واختيار الأحسن، هي ثمرة الاهتمام الحقيقي والعميق بما يُسمع. مثل هذا النهج له أهمية حيوية ليس فقط في المسائل الدينية والإلهية، بل في جميع أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية. الاستماع النشط والذكي يساعد الإنسان على التعلم من تجارب الآخرين، وتجنب الأخطاء، والتقدم نحو الكمال. هذه الصفة تحرره من التعصبات غير المبررة والجمود الفكري، وتهديه نحو السعي وراء الحقيقة. حقًا، إن أولي الألباب هم الذين يبقون آذانهم مفتوحة لكلام الحق والنصيحة المفيدة، معتبرين ذلك خطوة أساسية في مسيرتهم الروحية وسموهم، لأن الهداية الإلهية لا تُنال إلا لمن كان "مستمعًا" حقيقيًا بالمعنى الكامل للكلمة. في المقابل، ينتقد القرآن بشدة أولئك الذين تعجز آذانهم عن سماع الحق، حتى لو كانوا يمتلكون حاسة السمع الجسدية. هذا هو الفرق بين مجرد "السمع" و"الاستماع". في سورة الأنفال، الآية 21، يقول تعالى: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ". هذه الآية توضح بجلاء أن مجرد سماع الأصوات لا يكفي؛ المهم هو "فهم" الرسالة و"قبولها". هذا النوع من عدم الاستماع غالبًا ما ينبع من الكبر، أو التعصب، أو الإهمال، أو العمى الروحي للقلب. يصف القرآن هؤلاء الأفراد بأنهم "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" (البقرة: 18). هذا الصمم والبكم والعمى ليسوا عللًا جسدية، بل هي علل روحية تمنع إدراك الحق وقبوله. هؤلاء الأفراد، حتى عندما تُتلى عليهم الآيات الإلهية، "وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا" (لقمان: 7). هؤلاء هم الذين طُبع على قلوبهم وأفقدوا القدرة على سماع وقبول الحقيقة. ونتيجة هذا الفشل في الاستماع لا شيء سوى الضلال، والحرمان من الرحمة الإلهية، والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. لذلك، يحذرنا القرآن من أن نكون ضمن هذه الفئة، وأن نبقي آذان قلوبنا مفتوحة لتلقي الهداية الإلهية، متواضعين أمام كلام الله، مهيئين أنفسنا لتلقي الفيض والبركة. وإلى جانب الآيات المباشرة، تشير العديد من آيات القرآن ضمنيًا إلى أهمية الاستماع. على سبيل المثال، الأمر بـ "المشورة" (الشورى)، حيث يعد الاستماع إلى آراء ووجهات نظر الآخرين أمرًا أساسيًا، وبدون استماع فعال، لا يمكن أن تتم مشورة مفيدة. أو التأكيد على "العلم" و"المعرفة"، اللذين هما بحد ذاتهما نتاج الاستماع إلى المعلمين والعلماء والمصادر الموثوقة. وحتى في العلاقات الأسرية والاجتماعية، يدعونا القرآن إلى التعاطف والتفاهم المتبادل، الأمر الذي يتطلب الاستماع النشط والصبور لمخاوف وكلمات بعضنا البعض. ويوفر هذا النهج في الاستماع أساسًا للتواصل الصحي، وحل النزاعات، وتقوية الروابط الاجتماعية، وبناء مجتمع قائم على التفاهم والاحترام المتبادل. وقد كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه خير مثال للمستمع الكامل؛ فقد كان يصغي بكليته لصحابه، حتى للأطفال والضعفاء، وهذا بحد ذاته درس عظيم لنا جميعًا حول كيفية التعامل مع الآخرين وتكريم كرامتهم الإنسانية من خلال الاستماع. في الختام، يمكن القول إن دعوة القرآن إلى الاستماع هي دعوة جوهرية وشاملة تشمل جميع أبعاد الحياة البشرية. تتجاوز هذه الدعوة مجرد سماع الأصوات لتعني فتح بوابات القلب والعقل نحو الحقيقة، والحكمة، والهداية الإلهية. هذا الاستماع الفعال لا يساعد الإنسان فقط على اكتساب فهم أعمق لكلام الله وتطبيقه في حياته، بل يمكنه أيضًا من التصرف بذكاء أكبر في حياته اليومية، واتخاذ أفضل القرارات، والتقدم نحو الكمال. يطلب منا القرآن أن نكون مستمعين نظهر "سمعنا وأطعنا" في العمل وبكل تفانٍ. هذا النوع من الاستماع هو مفتاح الدخول إلى الرحمة الإلهية، والحياة الطيبة، والسعادة الأبدية. لذا، فلنفتح آذاننا لنداء الحق والحكمة، ولنستغل هذه النعمة الإلهية العظيمة، وهي هدية لا مثيل لها لنمو البشرية وارتقائها، بأفضل وجه لنمضي قدمًا في طريق القرب من الله.
في حكايات بستان سعدي، يُروى أن ملكًا عادلاً كان لديه وزير حكيم يرشده باستمرار إلى طريق الصلاح والعدل. كلما سمع الملك كلام الوزير، أومأ برأسه وقال: "سمعتُ!" لكن قلبه نادرًا ما كان يلتفت إلى ما سمعه، وأحيانًا كان يعرض عن نصائحه القيمة. في أحد الأيام، أصاب المملكة قحط شديد، وعانى الناس من ضيق وعسر عظيم. قال الوزير للملك بكل عطف: "يا أيها الملك، افتح أذن قلبك واستمع للنصيحة. فالتدبير ينفع في أوقات الرخاء، لا عندما يصل السكين إلى العظم. لقد نصحتك لسنوات بتخزين المؤن ورعاية أحوال الناس، وحذرتك من الهلاك، لكنك لم تكن لك أذن صاغية." الملك، الذي رأى حال الشعب المتأزم ووجد نفسه في مأزق، ندم على إهماله. ومنذ ذلك الحين، استمع إلى كلام الوزير ليس فقط بأذنيه، بل بقلبه وروحه، وطبق كل نصيحة حسنة كدواء شافٍ. لم يمض وقت طويل حتى عادت أمور البلاد إلى نصابها بفضل التدابير الحكيمة والاستماع إلى المشورات السديدة، وعاش الناس من جديد في رخاء وأمان. وفكر الملك في نفسه: "السمع هو مجرد بداية الطريق؛ أما الاستماع الحقيقي، فهو عمل يفتح طريق العقل وينير القلب، وعليه يتوقف صلاح الدنيا والآخرة." ومنذ ذلك الحين، اشتهر بأذنه الصاغية وعمله بالحكمة، وترك وراءه سيرة حسنة.