هل يشير القرآن إلى حدود العقل البشري في معرفة الله؟

يشير القرآن صراحة إلى حدود العقل البشري في إدراك ذات الله، مؤكداً أنه "ليس كمثله شيء" وأن الأبصار لا تدركه. وهذا يدعو إلى التواضع أمام العظمة الإلهية والتأمل في آياته، لا في ذاته اللامتناهية.

إجابة القرآن

هل يشير القرآن إلى حدود العقل البشري في معرفة الله؟

نعم، يشير القرآن الكريم بوضوح وبطرق متعددة إلى حدود العقل البشري في إدراك جوهر الله تعالى وحقيقته المطلقة. ويعتبر هذا المفهوم أحد الأسس الجوهرية في نظرية المعرفة التوحيدية. هذه الإشارات لا تعني نفي محاولة معرفة الله، بل هي توجيه للإنسان لكي يصل إلى معرفة صحيحة وعميقة بالرب بتواضع وفي حدود قدراته، دون الوقوع في خطأ التجسيم أو التشبيه. إن هذا الموضوع هو في الواقع دعوة للتأمل في آيات الله وآثار قدرته، وليس مجرد محاولة لإدراك ذاته اللامتناهية. من أهم الآيات المحورية التي تتناول هذا الموضوع هي الآية 11 من سورة الشورى التي تقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. هذه الآية الأساسية توضح مبدأ 'التنزيه' (أي تنزيه الله عن كل نقص وشبه بالمخلوقات). العقل البشري بطبيعته يميل إلى مقارنة وتصنيف كل ما يعرفه بناءً على الأنماط والخبرات التي يكتسبها من العالم المادي والمخلوقات. ولكن عندما يتعلق الأمر بالله، يوضح القرآن بجلاء أنه لا يوجد معيار للمقارنة. الله تعالى أسمى من أي تصور أو تشبيه أو صفة يمكن أن تُنسب للمخلوقات. هذا يعني أن أي صورة يصنعها العقل البشري عن الله ستكون محدودة بالخبرة البشرية وناقصة، وبالتالي بعيدة عن حقيقته. لا يمكننا مقارنة الله بأي شيء نراه أو نعرفه، لأنه لا نهائي ونحن محدودون. هذا التحديد لعقل الإنسان ليس للحد من الله، بل لحماية فهم الإنسان من الأخطاء الجسيمة في معرفته. يذكرنا بأن قدراتنا الإدراكية، المصممة للتفاعل مع عالم محدود، غير كافية لاستيعاب الطبيعة اللامتناهية للإله. وفي سياق متصل، تقول الآية 103 من سورة الأنعام: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. هذه الآية، وإن كانت ظاهريًا تتحدث عن الإدراك البصري، إلا أن المفسرين فهموها بمعنى أعم يشمل الإدراك العقلي والمعرفي. بعبارة أخرى، ليست الأبصار المادية وحدها غير قادرة على إدراك الذات الإلهية، بل العقل والفكر البشري أيضًا، بسبب حدوده الذاتية، لا يمكنهما الوصول إلى عمق ذات الله. يمكن للإنسان أن يرى آثار وعلامات قوة الله وعلمه وحكمته ورحمته في الخلق وفي حياته، ومن خلال ذلك يدرك وجوده وصفاته الكمالية. ومع ذلك، فإن ذاته أسمى من أن تُحتوى في وعاء العقل البشري المحدود. فكما لا يستطيع الإنسان إدراك عظمة المحيط اللامتناهية بقطرة ماء في يده، لا يمكن للعقل البشري أن يدرك كمال الوجود الإلهي. هذه الآية تعلم الإنسان أنه يجب أن يحافظ دائمًا على نوع من الاحترام والاعتراف بقصور إدراكه تجاه الله. مثال ساطع على هذا التحديد نجده في قصة نبي الله موسى (عليه السلام) وطلبه رؤية الله في سورة الأعراف، الآية 143. طلب موسى من ربه: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ (ربّ أَرِنِي أَنظر إليك). لكن جواب الله كان: ﴿قَالَ لَن تَرَانِي﴾ (قال: لن تراني). ثم ليبين حدود القدرة البشرية، قال: ﴿وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا﴾ (ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقًا). هذا الحدث، الذي وقع حتى لنبي عظيم مثل موسى، يشير بوضوح إلى أن ذات الله، بعظمته اللامتناهية، تفوق قدرة المخلوقات الفانية على الإدراك والتحمل. هذه القصة درس عظيم مفاده أنه ليس فقط رؤية ذات الله مستحيلة على العين البشرية، بل إن تجليه على شيء بعظمة الجبل يجعله يتدمر، وهذا يوضح حدود الوجود والإدراك البشري عند مواجهة الحقيقة الإلهية. تعتبر هذه الحدود دعوة للتواضع أمام العلم الإلهي. فالقرآن يشير مرارًا إلى محدودية علم الإنسان مقارنة بعلم الله اللامتناهي. فمثلاً، في سورة الإسراء، الآية 85، يقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). هذه الآية، وإن كانت تتحدث عن الروح، إلا أنها تحمل دلالة عامة على محدودية علم الإنسان في جميع المجالات، بما في ذلك إدراك الذات الإلهية. إن إدراكنا للعالم، حتى للظواهر من حولنا، ناقص، فكيف بإدراك حقيقة الوجود الذي هو خالق كل شيء؟ لذلك، يعلم القرآن الإنسان أنه بدلاً من محاولة حصر الله في أطره الذهنية، عليه أن يتفكر في خلقه وعلاماته. لقد عرّف الله نفسه للبشر من خلال 'آياته' (علاماته) في الكون وفي كلامه (القرآن). بالتدبر في هذه الآيات، يمكن للإنسان أن يدرك صفات الله الكمالية مثل العلم، القدرة، الحكمة، العدل، والرحمة، ومن خلال ذلك يسلك طريق المعرفة والتقرب الإلهي. هذا النهج يبعد الإنسان عن الغرور الفكري ومحاولة فهم ما هو خارج عن قدرته، ويوجهه نحو العبادة، التسليم، والخضوع أمام عظمة الله اللامتناهية. وهذا التحديد للعقل ليس نفيًا لأهمية العقل، بل هو توضيح لمكانه الصحيح في مسار المعرفة الإلهية؛ عقل يصل في النهاية إلى الإيمان والإقرار بعظمة الله وحدوده.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك عالم قضى حياته في طلب العلوم المختلفة، يتعمق في كل كتاب يقع بين يديه. وقد ملأه كبر العلم، فظن أنه بعقله يستطيع فك كل الألغاز. في أحد الأيام، راح يتساءل كيف يمكنه أن يصل إلى جوهر ذات الله؟ وبينما هو غارق في هذا الفكر، حل الليل وغفا. في عالم الرؤيا، رأى نفسه على حافة محيط لا يرى له نهاية، وفي يده إناء صغير. كلما حاول أن يسكب ماء المحيط في ذلك الإناء، فاض الماء وبقي المحيط بلا حدود. سمع نداءً يقول: "يا عالم، إناء عقلك، مهما كان كبيراً، كيف يمكنه أن يحتوي محيط الوجود الإلهي اللامتناهي؟ يمكنك أن تشرب من مائه وتستفيد من بركاته، ولكنك لن تستطيع أبدًا أن تحصره في إنائك." استيقظ العالم وعيناه تفيضان بالدموع، وبتواضع لم يختبره من قبل، أدرك أن معرفة الله ليست في حصره في العقل، بل في الإقرار بعظمته ولامحدوديته، والتواضع أمام آياته. ومنذ ذلك الحين، لم يزدد علماً فحسب، بل زاد من تواضعه وتسبيحه لله، وأضاء قلبه بنور المعرفة الحقيقية.

الأسئلة ذات الصلة