يشير القرآن الكريم بعمق إلى مفهوم الوحدة في الكثرة، بما في ذلك توحيد الخالق الواحد الذي يتجلى في كثرة الخلق، وفي الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية رغم تنوعها. يوضح هذا المفهوم أنه على الرغم من تنوع الظواهر والكائنات، فإنها جميعًا تعود إلى مصدر واحد وتنبع من حقيقة فريدة.
مفهوم «الوحدة في الكثرة» هو في الحقيقة أحد أعمق وأساسيات التعاليم التي يمكن تتبعها بوضوح في جميع أنحاء القرآن الكريم، على الرغم من أن هذا المصطلح الفلسفي قد لا يكون مذكورًا حرفيًا في نص الآيات. فالقرآن بطرق مختلفة يوضح كيف أن حقيقة واحدة مطلقة، وهي الله تعالى، هي مصدر وخالق الكون الذي تجلى في كثرة لا حصر لها من الظواهر والكائنات وقوانين الوجود. يتجلى هذا المفهوم ليس فقط في مجال التوحيد والذات الإلهية، بل أيضًا في الخلق، وتنوع البشر، وحتى في وحدة جماعة المؤمنين. من أبرز جوانب الوحدة في الكثرة في القرآن هو التوحيد الإلهي الخالص (وحدانية الله) وتجلياته في الخلق. فالله في القرآن يصف نفسه بـ«الأحد» و«الواحد»، أي الذات الواحدة الفريدة التي لا مثيل لها ولا شريك. ومع ذلك، فإن هذه الذات الواحدة هي خالقة السماوات والأرض، النجوم، المجرات، الكائنات الحية، وجميع الظواهر الطبيعية. التنوع اللامحدود والمدهش في الخلق، من الأنواع المختلفة للنباتات والحيوانات إلى اختلاف ألسنة البشر وألوانهم، كلها آيات وعلامات تشير إلى خالق واحد وحكيم. هذه الكثرة لا تتعارض مع وحدانية الله، بل هي دليل وبرهان قاطع على قدرته وحكمته وعلمه اللامتناهي. فلو كان هناك أكثر من خالق، لكان لكل منهم مملكته، وبالتالي لضاعت النظام والانسجام الذي يحكم الكون، في حين أن القرآن يشير بوضوح إلى النظام والتماسك الكوني الذي ينبع كله من مصدر واحد. هذا الانسجام والتعقيد في نظام الخلق شهادة على وحدانية مدبره. يدعو القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا البشر للتأمل في هذه الكثرة في الخلق والعثور على علامة التوحيد فيها. فعلى سبيل المثال، في سورة الروم، الآية 22، يقول: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم؛ إن في ذلك لآيات للعالمين). هذه الآية توضح بوضوح أن الاختلافات الظاهرية والثقافية بين البشر ليست سببًا للتفرقة، بل هي بحد ذاتها علامة على الحكمة الإلهية وقدرته الخالقة. كل هذه الكثرات تنبع من مصدر واحد، وهو الله، والهدف من هذا التنوع هو التعارف المتبادل والوصول إلى التقوى، وليس الانفصال والتفرقة. ويؤكد القرآن أنه على الرغم من هذه الاختلافات، فإن أصل و أساس جميع البشر واحد، وقد خلقوا جميعًا من نفس واحدة، كما يقول في سورة النساء، الآية 1: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ" (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة). علاوة على ذلك، في البعد الاجتماعي وللأمة الإسلامية، هذا المفهوم ملموس أيضًا. فالقرآن يأمر المؤمنين، على الرغم من اختلافاتهم القبلية والعرقية واللغوية، أن يكونوا جميعًا "أمة واحدة" وأن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا. سورة آل عمران، الآية 103، تعبر عن هذا المفهوم بجمال: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا). هذه الآية تبين كيف يجمع الله القلوب المتفرقة والأعداء بنور الإيمان، ويخلق من الكثرة والتفرقة وحدة وأخوة. الهدف من هذه الوحدة في الكثرة هو التعايش السلمي، والتعاون من أجل الخير، وتجنب النزاع والعداوة. وكذلك، في مجال الرسالة والنبوة، يؤكد القرآن على وحدة الرسالة الإلهية. فعلى الرغم من إرسال أنبياء متعددين إلى أمم مختلفة على مر التاريخ، فإن الرسالة الأساسية وجوهر الدعوة كان دائمًا واحدًا: عبادة الله الأوحد واجتناب الطاغوت. سورة النحل، الآية 36، تقول: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت). هذه الكثرة في الأنبياء والشرائع الأولية لا تتعارض مع وحدة رسالة التوحيد. فجميع الأديان الإبراهيمية والأنبياء الإلهيين، لهم أصل في حقيقة واحدة ومصدر واحد، وهدفهم الأسمى هو هداية الإنسان نحو نفس الإله الأوحد. هذا يظهر أن حقيقة الدين وأصله كانت دائمًا واحدة، وأن الاختلافات كانت في الفروع والشرائع المتناسبة مع الزمان والمكان، ولكن الهدف الرئيسي موحد وأساسي. في الختام، يمكن القول إن القرآن الكريم يؤكد بشكل جذري وأساسي على مفهوم الوحدة في الكثرة. هذا التأكيد ليس مجرد تعليم نظري، بل هو منهج عملي للحياة الفردية والاجتماعية. فهم هذه الحقيقة بأنه على الرغم من أننا متنوعون ومتعددون في الظاهر، فإننا جميعًا نعود إلى خالق واحد، ونتجه في النهاية إلى مصير مشترك، يمكن أن يزرع بذور السلام، التفاهم، التعاطف، والتعاون في المجتمعات الإنسانية. يدعو هذا المفهوم الإنسان للتأمل في الآيات الإلهية في الكون وفي ذاته، ويعلمه أن يرى خلف كل كثرة، يد القدرة والحكمة لوجود واحد لا مثيل له، وجود صور هذه الكثرة في قالب وحدة فريدة من نوعها بنظامه وجماله الذي لا يضاهى. هذه النظرة تمنح رؤية شاملة وواسعة للوجود، حيث كل جزء هو علامة على الكل وكل كثرة هي تجلٍّ للوحدة المطلقة. هذا العمق الفكري هو الأساس للمنظور التوحيدي للكون الذي يتردد صداه في جميع أنحاء القرآن.
جاء في گلستان سعدي أن ملكًا عادلًا كان يسعى لإيجاد طريقة لتعزيز التضامن بين شعبه. ذات يوم، قال لحكيم حكيم كان يتأمل في حديقة جميلة: «أيها الحكيم، سكان مدينتي من أعراق ومهن مختلفة. كل منهم منشغل بشأنه، وقليلًا ما يلتفت بعضهم إلى بعض. كيف يمكننا خلق وحدة في هذه الكثرة ليكونوا جميعًا كأعضاء جسد واحد؟» ابتسم الحكيم وقال: «أيها الملك! انظر إلى هذه الحديقة الجميلة. لقد نمت فيها آلاف الزهور بألوان وروائح مختلفة؛ من الورد الأحمر الناري إلى البنفسج الجذاب والياسمين الأبيض. كل منها يتمتع بجماله الخاص، ولو كان هناك نوع واحد فقط من الزهور، لما كان هذا القدر من النضارة والعطر. ولكن هذه الكثرة من الزهور هي التي جعلت الحديقة جنة لا مثيل لها، تأسِر قلوب الناظرين. لا تفوق زهرة أخرى إلا بعطرها الفواح أو بلونها الذي يسر العين. وحدة هذه الحديقة تكمن في تنوع أزهارها التي تشرب جميعًا من نفس التربة وتنظر إلى نفس الشمس. كما قال سعدي: 'بني آدم أعضاء یکدیگرند / که در آفرینش ز یک گوهرند.' أي أن البشر أعضاء لجسد واحد، فهم من جوهر واحد في الخلق. إذا أدرك سكان مدينتك أيضًا أنهم جميعًا ينبعون من جذر واحد وخالق واحد، وأن كل اختلاف بينهم هو كمال للكل، فحينئذ سيجدون الوحدة في كثرتهم وسيصبحون جميلين وعطرين، كحديقة مليئة بالزهور الملونة.» سر الملك بهذا القول المستنير وعزم على نشر هذه الحكمة بين شعبه لبناء مدينة موحدة وقوية من خلال التفاهم والتعاطف.