القرآن لا ينص على أن الإنسان خُلق للشقاء كغاية نهائية؛ بل الشقاء جزء لا يتجزأ من الاختبار الإلهي لنمو الإنسان وتطهيره وبلوغه السعادة الأبدية. الهدف الأساسي من الخلق هو العبادة ومعرفة الله، ويتحقق ذلك بالصبر في الشدائد والشكر على النعم.
عند مواجهة السؤال العميق حول ما إذا كان الإنسان قد خلق للشقاء، يقدم القرآن الكريم إجابة واضحة وشاملة ومليئة بالأمل تتجاوز مفهوم الشقاء المجرد. فصحيح أن الحياة الدنيا تتخللها تحديات وصعوبات وابتلاءات قد تبدو مؤلمة، إلا أن هذه ليست الغاية الأساسية من خلق الإنسان؛ بل هي وسائل ومراحل لتحقيق أهداف أسمى. يؤكد القرآن صراحة أن الهدف الأساسي من خلق الإنسان هو العبودية والعبادة لله. يقول الله تعالى في سورة الذاريات، الآية 56: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»؛ وهذا يعني أن الله لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه. وهذه العبودية لا تعني مجرد أداء المناسك، بل تشمل معرفة الله، وطاعته في أوامره ونواهيه، والعيش وفقًا للقيم الإلهية. وهذا المسار من العبودية هو بحد ذاته طريق الكمال والسعادة الحقيقية، حيث تلعب الصعوبات دورًا بناءً بدلاً من أن تكون غاية في حد ذاتها. في المنظور القرآني، الحياة الدنيا هي ميدان للاختبار والابتلاء. يقول الله تعالى في سورة الملك، الآية 2: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»؛ أي: «الذي خلق الموت والحياة ليختبركم أيكم أحسن عملًا؛ وهو العزيز الغفور.» هذه الآية توضح بجلاء أن الهدف من الخلق هو الاختبار. والاختبارات، سواء كانت على شكل صعوبات وبلاء (الشقاء) أو على شكل نعم ورفاهية (الرخاء)، كلها تهدف إلى قياس إيمان الإنسان وصبره وشكره وأفعاله في إطار عبادته لله. فالشقاء في هذا المسار، هو وسيلة للنمو وتزكية النفس، وتمييز المحسنين من المسيئين. إنها تدعو الإنسان إلى التفكر والتوبة والعودة إلى الله. وفي الواقع، غالبًا ما تكشف الصعوبات حقائق وتظهر قدرات إنسانية كامنة ربما لم تكن لتكتشف في ظروف الرخاء. يؤكد القرآن أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ففي سورة البقرة، الآية 286، جاء: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»؛ أي: «لا يكلف الله نفسًا إلا طاقتها.» هذه الآية تظهر رحمة الله وعدله. فالصعوبات التي يختبرها الإنسان لا تتجاوز قدرته على تحملها وتجاوزها. هذا التأكيد يمنح الإنسان طمأنينة بأنه يستطيع مواجهة أي مشكلة تطرأ عليه والتعلم منها. علاوة على ذلك، يبشر القرآن بأن مع العسر يسرًا. ففي سورة الشرح، الآيتين 5 و 6، يقول الله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»؛ أي: «فإن مع الشدة سعة. حقًّا إن مع الشدة سعة.» هذه الآيات تحمل رسالة أمل وعزاء، تذكّر الإنسان بأن الصعوبات مؤقتة وسيتبعها الفرج والراحة. وهذا التكرار يؤكد حتمية وعد الله باليسر بعد العسر. وقد يكون هذا اليسر في الدنيا أو في الآخرة، أو كليهما. أحيانًا تُعتبر الصعوبات والشقاء كفارة للذنوب، وتؤدي إلى تطهير الروح وسموها. فكما تطهر النار الذهب من الشوائب، كذلك تطهر الصعوبات الإنسان من الأدران الروحية. ومن ناحية أخرى، فإن الصبر والثبات في مواجهة الشقاء يجلبان أجرًا عظيمًا. وقد ذكر القرآن مرارًا جزاء الصابرين ووعد بأن الله يجزيهم أجرهم بغير حساب. هذه الرؤية تمنح الشقاء معنى وهدفًا، وتحوله من تجربة سلبية بحتة إلى فرصة لكسب الأجر والثواب الإلهي. كذلك، خلق الله الإنسان في «أحسن تقويم» (أجمل صورة وشكل)، كما نقرأ في سورة التين، الآية 4: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ». هذا يدل على كرامة ومكانة الإنسان العالية في نظر الله. إن خلق الإنسان بمثل هذا الكمال لا يتناسب مع فكرة أنه قد خلق لمجرد المعاناة. بل خُلق الإنسان بقدرات ومواهب فريدة ليسير بإرادته واختياره على طريق السعادة ويقترب من الله. والصعوبات الدنيوية في هذا الطريق هي مجرد عقبات لاختبار إرادة الإنسان وإيمانه، وليست هي الغاية الكاملة من خلقه. في الختام، يجب القول إن الحياة الدنيا هي معبر مؤقت، والدار الأبدية هي الآخرة. إن معاناة هذه الدنيا لا تُذكر وتتلاشى مقارنةً بالسعادة الأبدية في الجنة. الهدف الأسمى هو بلوغ رضوان الله والحياة الطيبة في الآخرة، وهو ما يتحقق بالصبر والشكر في مواجهة الصعوبات والرخاء. لذلك، لا يقول القرآن أبدًا إن الإنسان خلق للشقاء؛ بل يقدم الشقاء كجزء لا يتجزأ من الاختبار الإلهي وطريقًا للنمو والتطهير وبلوغ الكمال والسعادة الحقيقية. هذه الرؤية ليست فقط باعثة على الأمل، بل تمنح الإنسان معنى وهدفًا ليواجه تحديات الحياة ببصيرة وصبر، ويعلم أنه بعد كل شدة فرج، وأن هناك أجرًا عظيمًا ينتظر الصابرين. وهذا التوجه يجعل الإنسان لا يخشى الشقاء، بل يراه فرصًا للتقرب إلى الله وصقل الروح. إن الحياة هي هبة من الله، وكل لحظة فيها يمكن أن تكون محلًا لاكتساب المعرفة والوصول إلى القرب الإلهي، والشقاء جزء من هذا الطريق المثمر والروحي. بعبارة أخرى، الصعوبات هي فرن اختبار يحول الإنسان إلى فولاذ مصقول، ويهيئه لتحقيق أهداف أكبر وأبدية. الهدف هو الوصول إلى السكينة والرضا الإلهي، حيث لا يوجد شقاء. لقد خلق الإنسان ليحقق المعرفة الإلهية، وبإرادته يختار طريق الهداية، وهذا الطريق أحيانًا يكون مصحوبًا بصعوبات هي ضرورية للكمال.
في «گلستان» لسعدي، يُروى أن أحد أصدقائه حكى: «لم أشكو قط من حالتي ولا تعكر مزاجي إلا يومًا كنت فيه حافي القدمين ولم أجد حذاء، فدخلت مسجد الكوفة.» كان الرجل مكسور القلب وحزينًا. ولكن بمجرد أن وقع بصره على ركن من المسجد، «رأيت رجلاً ليس له قدمان.» في تلك اللحظة، استدرك الرجل وقال: «الحمد لله أن لي قدمين، وإن كانتا حافيتين.» هذه القصة القصيرة ولكنها ذات معنى عميق من سعدي تذكرنا بأن الشدائد والنواقص في الحياة أحيانًا ما تكون مجرد تصوراتنا عنها. فعندما ننظر إلى مشاكل الآخرين، ندرك النعم الخفية التي نملكها في حياتنا. ليس الغرض من خلقنا هو المعاناة المحضة، بل رؤية وفهم النعم وتجاوز الصعوبات بالصبر والشكر لنصل إلى المعرفة والسلام الحقيقي، تمامًا كما وجد ذلك الرجل في النهاية سلامة القلب.