يتناول القرآن الكريم بتفصيل نعم الله التي لا تحصى، المادية والمعنوية، ويهدف من تذكيرها إلى دعوة الإنسان للشكر والتفكير ومعرفة الله، ليقوده نحو حياة هادفة ومسؤولة. تدعونا هذه الآيات إلى تقدير عميق للخالق واستخدام هباته بحكمة لتحقيق السعادة الحقيقية.
في الكلمة الإلهية، القرآن الكريم، يعد تذكير نعم الرب التي لا تعد ولا تحصى من المواضيع المحورية والمتكررة. هذا التذكير ليس مجرد قائمة بسيطة للمواهب، بل هو دعوة عميقة للتفكير والشكر، ومعرفة أعمق بالخالق الذي منه كل الوجود. يخاطب القرآن الإنسان بلهجة دافئة وودية، بهدف إيقاظه من الغفلة، ويدعوه إلى الملاحظة والتأمل فيما حوله، ليجد في كل ذرة من الخلق علامة على عظمة الله وحكمته ورحمته اللامتناهية. الهدف الأساسي من هذه التذكيرات هو توجيه البشرية نحو التوحيد والعبودية وحياة مليئة بالامتنان. يقسم القرآن الكريم النعم إلى فئتين رئيسيتين: النعم المادية (الظاهرة) والنعم المعنوية (الباطنة)، ويقدم أمثلة وفيرة لكل منهما. ففيما يخص النعم المادية، تشير آيات عديدة إلى خلق السماوات والأرض، والتوازن المذهل في الكون، والدوران المنتظم للشمس والقمر، ونزول المطر الذي يحيي الأرض الميتة، والرياح التي تحرك السحب. كل هذه آيات لأولي الألباب ليتدبروا فيها. في سورة النحل المباركة، المعروفة أيضًا بسورة 'النعم'، يتحدث الله تعالى بالتفصيل عن نعم مثل المطر، وأنواع الفواكه والتمور، واللبن الخالص من بين الفرث والدم، والعسل الشافي، والأنعام التي تُستخدم وسيلة للنقل ومصدرًا للغذاء. يقول تعالى في الآية 66 من سورة النحل: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ﴾. هذه الآية تُظهر بوضوح عجب الخلق وكرم الله عز وجل. بالإضافة إلى ذلك، تُشار النعم المتعلقة بوجود الإنسان نفسه بشكل متكرر. نعمة الصحة، الحواس الخمس مثل البصر والسمع والنطق، الأعضاء السليمة، وفوق كل ذلك، نعمة العقل وقدرة التفكير التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات، هي من أهم النعم المادية والمعنوية في آن واحد. يقول تعالى في سورة السجدة، الآية 9: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾. هذه الآية تشير مباشرة إلى تقصير الإنسان في شكر هذه النعم الحيوية. إلى جانب النعم المادية، يؤكد القرآن بشكل خاص على النعم المعنوية؛ النعم التي قد لا تُرى بالعين المجردة ولكنها تشكل أساس سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية. أعظم هذه النعم هي نعمة الهداية الإلهية. إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية كالقرآن الذي هو نور لهداية البشر، وتوضيح سبيل الحق من الباطل، كلها أمثلة واضحة لهذه النعمة. القرآن نفسه، كنعمة عظيمة، يقول في سورة البقرة، الآية 185: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾. نعمة الإيمان، والسلام والطمأنينة الروحية، والمحبة والرحمة في الأسرة (سورة الروم، الآية 21)، وحتى توفيق التوبة والاستغفار، تعد من النعم الباطنة التي تؤثر بعمق على جودة حياة الإنسان. الهدف الأساسي من تذكير هذه النعم هو 'الشكر'. الشكر في القرآن ليس مجرد فعل لساني، بل هو حالة قلبية وعملية. يعد القرآن صراحة بأنه إذا شكرتم فسيزيد النعم، وإذا كفرتم فإن عذاب الله شديد (سورة إبراهيم، الآية 7: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾). الشكر الحقيقي يعني الاستخدام الصحيح والمناسب للنعم في سبيل رضا الله ولخدمة الخلق. على سبيل المثال، يجب استخدام نعمة الصحة في سبيل العبادة والسعي لحياة أفضل، ويجب إنفاق نعمة المال في مساعدة المحتاجين والأعمال الخيرية. كفران النعمة، في المقابل، يعني الجحود، أو سوء استخدام النعم، أو نسيان مصدرها الإلهي، مما يؤدي إلى زوال البركات وأحيانًا العذاب. هدف آخر هو الدعوة إلى التفكر والتدبر. يدعو القرآن مرارًا الإنسان إلى التأمل في ظواهر الكون ونعمه من خلال أسئلة مثل: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟﴾، ﴿أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ؟﴾، أو ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟﴾. كل نعمة هي حجة على وجود الله ووحدانيته، وعلامة على قدرته اللامتناهية. تؤدي هذه التأملات إلى تعميق الإيمان وتقوية علاقة الإنسان بالخالق. وختامًا، يوجه القرآن الكريم، من خلال التذكير المستمر والشامل بالنعم الإلهية، الإنسان نحو حياة هادفة وذات معنى ومليئة بالامتنان. تحثنا هذه الآيات على أن نكون دائمًا واعين لفضل الله وكرمه، وأن نعتبر كل ما نملك أمانة منه سبحانه. إن فهم عمق هذه التذكيرات لا يساعدنا فقط على أن نكون أكثر تقديرًا، بل يوجهنا أيضًا نحو الاستخدام المسؤول لهذه المواهب من أجل النمو الفردي والجماعي، وفي النهاية، تحقيق السعادة الحقيقية. دعونا نتوقف لحظة لنتأمل كيف ستكون حياتنا لو حُرمنا حتى من إحدى النعم البديهية مثل التنفس أو الرؤية؛ عندئذ سندرك بعمق لطف الله وعظمته، وسنجد حياتنا مليئة بالشكر والثناء.
يحكي سعدي الشيرازي في بستانه: «لم أشكو قط من أحوال الدنيا، ولم أعبس من تقلبات الزمان، إلا مرة حين بقيت قدماي حافيتين ولم أجد حذاءً. ذهبت إلى الكوفة ورأيت رجلاً بلا قدمين. عندئذ، شكرت الله فورًا وصبرت على حافتي.» تذكرنا هذه القصة الجميلة أنه حتى في أدنى النواقص، يجب أن ننتبه إلى النعم العظيمة التي نملكها ونشكر الله عليها، فدائمًا يوجد من هو أكثر احتياجًا منا، وما نعتبره نعمة، هو حلم للآخرين. تقدير ما نملك يهدي السلام لقلوبنا.