يتم فهم حكمة الله من خلال تدبر الخلق، والتعمق في القرآن، وقبول حدود المعرفة البشرية، والتأمل في الأسماء الإلهية، والعيش حياة صالحة. تتطلب هذه الرحلة التواضع والتفكير العميق والثقة في حكمة الله الخفية.
إن الوصول إلى فهم صحيح لحكمة الله تعالى هو رحلة عميقة ومباركة تتطلب التأمل والتفكر والتواضع. حكمة الله لها أبعاد لا متناهية تتجاوز الإدراك البشري الكامل، ومع ذلك، فإن القرآن الكريم وآيات الخلق هما دليلا لنا في هذا المسار. لتحقيق هذا الفهم، يجب اتخاذ خطوات عملية وروحانية محددة. أولاً، وربما الأهم، هو التدبر في الخلق والآيات الإلهية. الكون بأسره، من أصغر ذرة إلى أوسع المجرات، مليء بالنظام والدقة والغاية. كل نبتة تنمو، وكل كائن حي يتنفس، وكل ظاهرة تحدث، هي دليل على حكمة الله وتدبيره الفريد. انظر إلى السماوات، إلى دوران النجوم والكواكب المنتظم، إلى تعاقب الليل والنهار والفصول. فكر في تعقيد جسم الإنسان؛ كل خلية، كل عضو، يؤدي وظيفته بنظام مذهل. كل هذه آيات ودلائل ترشدنا نحو خالق حكيم. يدعو القرآن الكريم مراراً الإنسان إلى التفكر والتدبر في هذه الآيات، لأن هذا التفكر هو الذي يكشف الستار عن الحكم الخفية ويزيد الإيمان عمقاً. تشير الآية 190 من سورة آل عمران بجمال إلى هذه النقطة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190). وهؤلاء أولو الألباب هم الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، وفي النهاية يقرون بأن الله لم يخلق شيئًا باطلاً. الخطوة الثانية هي التأمل العميق في القرآن الكريم. القرآن هو كلام الله نفسه، وهو المصدر الأكثر شمولاً لفهم حكمته. كل آية، كل قصة، كل حكم، وكل نصيحة في القرآن، تحتوي على حكم عميقة تضيء مسار سعادة البشرية. بالتدبر في آيات القرآن، ندرك أن القوانين الإلهية لم توضع فقط لتنظيم المجتمع البشري، بل إن لكل منها فلسفة وحكمة، حتى لو بدت لنا غير مفهومة في الظاهر، فإن أبعادها تتكشف مع التأمل الأعمق ومرور الوقت. كما أن دراسة سير الأنبياء الإلهيين المذكورة في القرآن تساعدنا على رؤية كيفية تجلي حكمة الله في مواجهة التحديات وتحقيق الوعود الإلهية عبر التاريخ. القرآن نفسه يعلمنا أن الحكمة هبة إلهية: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: 269). الله يمنح الحكمة لمن يشاء، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. هذه الآية تدل على أن الحكمة هبة إلهية يجب طلبها بجدية. ثالثاً، قبول حدود المعرفة البشرية وتنمية التواضع. نحن البشر، على الرغم من كل قدراتنا العقلية، لا يمكننا فهم سوى جزء صغير من الحقيقة. حكمة الله لا نهائية، ولا يمكن لعقلنا المحدود أن يدرك جميع جوانبها. في كثير من الأحيان، تحدث في حياتنا أحداث قد لا تبدو منطقية أو عادلة أو حتى خيرة للوهلة الأولى. في هذه اللحظات، يكتسب الإيمان بالحكمة الإلهية الخفية أهمية قصوى. قصة موسى والخضر في سورة الكهف هي مثال بارز على هذه الحقيقة؛ حيث لم يتمكن موسى من فهم الحكمة وراء أفعال الخضر حتى قدم الخضر تفسيراته الإلهية. هذه القصة تعلمنا أن نثق في حكمة الله الخفية، حتى لو لم تتضح الأسباب لنا فوراً. هذا القبول لا يوفر الراحة فحسب، بل يجعلنا ننظر إلى أحداث الحياة بعقل أكثر انفتاحاً ونجد الحكمة وراء كل حدث. رابعاً، التفكر في أسماء الله وصفاته الحسنى. كل اسم من أسماء الله الحسنى يكشف جانباً من عظمته وكماله. بالتأمل في اسم «الحكيم»، ندرك أن الله يفعل كل أفعاله بناءً على علم ومصلحة. اسم «العليم» يدل على أنه عالم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء. اسم «الرحيم» يعلمنا أن حكمته ممزوجة دائماً بالرحمة والشفقة. معرفة هذه الصفات لا تساعد على تقوية الإيمان فحسب، بل تمنحنا بصيرة لتحليل أحداث الحياة في ضوء هذه الصفات الإلهية وندرك الحكمة الخفية فيها. على سبيل المثال، عندما نواجه مصيبة، فإن معرفة أن الله «الرحيم» وأن حكمته لا تشوبها شائبة يساعدنا على عدم فقدان الأمل وأن نعلم أن وراء هذا الحدث خيراً خفياً قد نكون غير مدركين له حالياً. أخيراً، العيش حياة التقوى والعمل الصالح يساعدنا أيضاً في فهم حكمة الله. عندما يسير الإنسان في طريق مرضاة الله ويعمل بأحكامه، يضيء قلبه ويزداد بصيرته. الحياة ضمن إطار التعاليم الإلهية هي بحد ذاتها شهادة على حكمة تلك التعاليم. ندرك عملياً آثارها الإيجابية والمهدئة، وهذه التجربة العملية تجلب لنا أعمق أنواع الفهم للحكمة الإلهية. في الواقع، إن طريق معرفة الحكمة الإلهية ليس مجرد مسار فكري، بل هو أسلوب حياة يكشف بركاته تدريجياً من خلال ذكر الله، والتفكر في الخلق، والعمل بأوامره، ويملأ قلب الإنسان باليقين والسلام. لذا، لنسر بتواضع في طريق معرفته ولنثق في حكمته التي لا مثيل لها.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان يعيش في نيشابور رجل تقي وحكيم يدعى 'ميرزا حسن'. كان يراقب كل فصل في حديقته بدقة، ويتعلم درساً جديداً في كل مرة. في أحد الأيام، سأله أحد تلاميذه: 'أيها الأستاذ، كيف يمكنني أن أصل إلى فهم حكمة الله؟' ابتسم ميرزا حسن وقال: 'يا بني، اليوم، بينما تذبل أوراق الأشجار وتتبعثر بفعل رياح الخريف، هل ترى كيف أن هذا الجفاف والذبول يهيئ الأرض لإنبات بذور جديدة؟ وكيف أن أمطار الشتاء تروي الجذور وتمنحها القوة لتنمو في الربيع بحيوية وخضرة أكبر؟' استمع التلميذ بتفكير عميق. تابع ميرزا حسن: 'هكذا هي الحكمة الإلهية في حياتنا. أحياناً، ما نعتبره صعوبة أو نقصاً، هو في الحقيقة تمهيد لخير ونمو كبير لا ندركه في تلك اللحظة. لذا، انظر إلى كل ظاهرة وكل حدث بعين البصيرة، فخلف كل مظهر توجد حكمة خفية لا تظهر إلا لأهل التفكر.' بهذه الكلمات، وجد التلميذ طريقاً جديداً لفهم الحكمة وغاص في عمق التأمل.