لتطهير نفسك من الحسد، استعذ بالله وارض بحكمته الإلهية في توزيع النعم. بدلاً من تمني زوال نعم الآخرين، اطلب من فضل الله لنفسك، وركز على الشكر والقناعة الداخلية.
الحسد هو أحد الأمراض الروحية الفتاكة والمدمرة التي يمكن أن تجفف جذور الإيمان والسكينة الداخلية للإنسان. هذا الشعور المزعج يشتعل في القلب عندما يشعر الفرد بالضيق والغضب والرغبة في زوال النعم والنجاحات التي يمتلكها الآخرون. القرآن الكريم، هذا الكتاب الهادي والنور، تناول هذه الظاهرة المذمومة بشكل مباشر وغير مباشر، وقدم حلولاً لمكافحتها، لتمكين الإنسان من تطهير قلبه من هذه الشوائب وتحقيق الطمأنينة والرضا الإلهي. أولاً وقبل كل شيء، يصف القرآن الحسد بأنه شر ويُعلّمنا أن نلجأ إلى الله منه. سورة الفلق المباركة تتناول هذا الموضوع بوضوح: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ... وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" (قل أعوذ برب الفلق... ومن شر حاسد إذا حسد). هذه الآية تبين أن الحسد قوة مدمرة يجب على الإنسان أن يستعيذ بالله منها. هذه الاستعاذة هي الخطوة الأولى في طريق التحرر من قبضة الحسد؛ لأنها تربط الإنسان بمصدر القوة والحماية الإلهية. بتكرار هذا الذكر والإيمان العميق بقدرة الله، يتخلص القلب تدريجياً من المخاوف والظلمات الناتجة عن الحسد، ويحل محلها نور الأمل والسكينة. هذه الآية تحذير جاد يشير إلى أن الحسد يمكن أن يكون مصدراً للشرور الخارجية، ولكنه قبل كل شيء، يحرق ويستهلك الحاسد من داخله، ويُبعده عن طريق الحق. إنها تؤكد على السمية الروحية للحسد، وتحث المؤمنين على تحصين أنفسهم بالحماية الإلهية. أحد الأسباب الرئيسية للحسد هو عدم الرضا بالقدر الإلهي وتوزيع النعم. يعلمنا القرآن أن كل شيء بيد الله، وهو الذي يمنح العز والنعم لمن يشاء، ويسلبهما ممن يشاء. في سورة آل عمران، الآية 26، يقول الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ۖ بيدك الخير ۖ إنك على كل شيء قدير). بفهم هذه الحقيقة - أن كل نعمة من الله وأن حكمته هي الغالبة في توزيعها - يدرك الإنسان أن الحسد على رزق الآخرين لا معنى له. بدلاً من تمني زوال النعمة من الآخر، يجب أن نسأل الله أن يمنحنا من فضله وكرمه. هذا المنظور يحول العقلية التنافسية السلبية إلى عقلية الجهد وطلب الخير من الله. إنه يزرع شعوراً بالرضا بما قسم الله للفرد مع الحفاظ على الأمل في نعم أكبر بوسائل مشروعة. إدراك أن خطة الله كاملة وعادلة يساعد على تخفيف الاضطراب الداخلي الذي يسببه الحسد، ويعزز شعوراً عميقاً بالثقة والتسليم لمشيئته. حل قرآني آخر مهم هو عدم تمني ما فضل الله به بعضكم على بعض، بل طلب فضل الله. في سورة النساء، الآية 32، جاء: "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ۚ للرجال نصيب مما اكتسبوا ۖ وللنساء نصيب مما اكتسبن ۚ واسألوا الله من فضله ۗ إن الله كان بكل شيء عليما). هذه الآية تخبرنا صراحة أنه بدلاً من تمني امتلاك ما يمتلكه الآخرون، وبالتالي الوقوع في الحسد، يجب أن نركز على جهودنا وكسبنا الحلال وأن نطلب من فضل الله اللامتناهي. هذا التحول في المنظور يبعدنا عن النظرة الحاسدة للآخرين ويوجهنا نحو تزكية الذات والاعتماد على الله. لكل فرد نصيب من جهده، والله عليم بكل شيء، ويمنح بحسب حكمته. هذا التوجيه يشجع على اتباع نهج استباقي للتنمية الشخصية والسعي للرزق المشروع، بدلاً من المراقبة السلبية والحاقدة لنجاحات الآخرين. لتطهير النفس عملياً من الحسد، بالإضافة إلى الاستعاذة بالله وتغيير العقلية، يجب العمل على زيادة الشكر والرضا الداخلي. يؤكد القرآن مراراً على أهمية الشكر، ويقول: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (لئن شكرتم لأزيدنكم). عندما يركز الفرد على نعمه، مهما كانت قليلة، ويشكر الله عليها، يمتلئ قلبه بالرضا، فلا يترك مجالاً للحسد. علاوة على ذلك، فإن زيادة الإيمان والتقوى، والتركيز على الآخرة، يقلل من قيمة الدنيا في نظر الإنسان ويُبهت قيمة زخارفها الزائلة. فالذي هدفه الأساسي هو رضا الله والجنة الأبدية، لا ينغمس في المنافسات الدنيوية العقيمة والحسد على متاع الآخرين الزائل. محبة خلق الله، والدعاء لنجاح الآخرين، والمشاركة في أفراحهم هي أيضاً من الطرق العملية للقضاء على بذور الحسد في القلب. عندما يكون الإنسان محباً للخير للآخرين، يرحل الحسد من قلبه. الحضور في مجالس الذكر وتلاوة القرآن، والتفكر في الآيات الإلهية، وزيادة الوعي بفلسفة الخلق والحكمة الإلهية، كلها أمور تساعد كثيراً في هذا المسار. هذه الحلول القرآنية لا تزيل الحسد فحسب، بل توجه الإنسان نحو الكمال والسكينة الحقيقية. تطهير الحسد رحلة روحية مستمرة، تتكلل بالنجاح بمعونة الله والجهد المتواصل.
في أحد الأيام، كان درويش صبور وقنوع يسير في الأزقة والأسواق وقلبه يحمل شيئًا من الحزن لعدم امتلاكه حذاءً مناسبًا. كلما نظر إلى أقدام الآخرين ورأى أحذيتهم الجميلة، كأن غبارًا صغيراً من الحسرة يستقر في قلبه. قال لنفسه: "آه، لو كان لدي حذاء يحمي قدمي من الحجارة والشوك." وبهذه الفكرة وقلبه منقبض، دخل مسجداً ليجد بعض السكينة. وما إن وقعت عيناه على زاوية من المسجد، حتى رأى رجلاً محرومًا من كلتا قدميه. لقد هز هذا المنظر الدرويش فجأة! فسجد على الفور وشكر الله من أعماق قلبه على أن قدميه سليمتان، وأن مشكلته الوحيدة هي عدم وجود حذاء. في تلك اللحظة، طارت كل الحسرة والحزن من قلبه، وحل محلهما الشكر والقناعة. تعلمنا هذه القصة الجميلة أن الحسد غالباً ما ينبع من مقارنة أنفسنا بمن هم أعلى منا، بينما النظر إلى من هم أقل منا يفتح نافذة على الشكر والسكينة الداخلية.