كيف يمكن الجمع بين الجهد والتوكل على الله؟

للتوكل الحقيقي، يجب أولاً بذل كل الجهد الممكن ثم تسليم النتائج لحكمة وإرادة الله. التوكل دون سعي لا معنى له، والسعي دون توكل يورث القلق.

إجابة القرآن

كيف يمكن الجمع بين الجهد والتوكل على الله؟

في تعاليم القرآن الكريم الغنية والشاملة، يُقدّم مفهوم سامٍ ومُهتدٍ لحياة الإنسان، يتناول أهمية الجهد والسعي، وكذلك التوكل والاعتماد على الذات الإلهية الأزلية. هذان المفهومان، وهما 'الجهد' (الذي يُعبر عنه في القرآن بكلمات مثل 'العمل' و'السعي' و'الجهاد' و'كسب اليمين') و'التوكل' (الاعتماد القلبي على الله)، ليسا متناقضين، بل هما متكاملان وضروريان لبعضهما البعض. يُظهر القرآن الكريم بوضوح أن سبيل الفلاح والنجاح يكمن في الجمع بين هذين العنصرين الحاسمين. فالمؤمن مدعو لبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق أهدافه المشروعة، وفي الوقت نفسه، يسلّم نتائج وعواقب عمله لحكمة وتدبير الله سبحانه وتعالى. يُعد الجهد والسعي من الأركان الأساسية للحياة في المنظور القرآني. فالله تعالى في آيات عديدة يشجع الإنسان على العمل والاجتهاد واستغلال نعم الأرض. على سبيل المثال، في سورة النجم الآية 39 يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. هذه الآية تُبين بوضوح أن كل ما يحصل عليه الإنسان هو نتاج سعيه وجهده. وكذلك، في سورة الجمعة الآية 10 نقرأ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. هذه الآية تأمر المؤمنين بأنه بعد الانتهاء من الصلاة (وهي عبادة عظيمة)، أن يتفرقوا في الأرض لطلب الرزق والابتغاء من فضل الله، وأن يذكروا الله كثيراً لعلهم يفلحون. هذا التأكيد على ضرورة الجهد والسعي، يُظهر أن الإسلام دين حيوي وفعال، ولا يُقر بالخمول والكسل. فالإنسان مسؤول عن استغلال مواهبه وإمكانياته والعمل على تحقيق أهدافه. من ناحية أخرى، التوكل على الله يعني الاعتماد المطلق عليه، بعد بذل كل الجهود الممكنة. التوكل ليس أن يجلس الإنسان مكتوف الأيدي وينتظر أن يأتيه الرزق أو النجاح من السماء. بل التوكل هو قمة المعرفة واليقين القلبي بأن الإنسان بعد الأخذ بجميع الأسباب والوسائل الظاهرة، يُسلم النتائج إلى يد الله القوية والحكيمة. يقول القرآن الكريم في سورة الطلاق الآية 3: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾. هذه الآية ترسم صورة جميلة ومريحة للتوكل: من يتوكل على الله، فالله كافيه. وهذا يعني أنه إذا قام الإنسان بواجبه على أكمل وجه ثم سلم قلبه لله، فلا داعي للقلق بشأن المستقبل أو القلق من النتائج؛ لأنه يعلم أن الله هو خير المدبرين للأمور. الجمع بين هذين المفهومين هو سر النجاح والراحة الحقيقية. يجب على الإنسان أولاً أن يخطط بأفضل طريقة ممكنة، ويوفر الأدوات والمعرفة اللازمة، ويعمل بأقصى درجات المثابرة والجدية. هذه المرحلة هي 'السعي' و'الجهد'. بعد أن يستخدم كل قدراته، و'يرمي سهامه' كما يُقال، يأتي دور 'التوكل'. في هذه المرحلة، يعلم المؤمن أنه على الرغم من قيامه بواجبه، إلا أن هناك عوامل أخرى لا تُحصى تؤثر في النتيجة النهائية، وهي تتجاوز قوته وسيطرته. هنا، بقلب مطمئن وروح هادئة، يُسلم النتيجة لله. وهذا التوكل يمنحه الطمأنينة بأنه حتى لو لم تتحقق النتيجة المرجوة، فإن اليأس والقنوط لا يتسللان إليه، لأنه يعلم أن الحكمة الإلهية كامنة وراء الستر، وقد يكون هناك خير في هذا عدم التحقق لا يعلمه. هذا النهج يحرر الإنسان من القلق الناتج عن التعلق المفرط بالنتائج ويسمح له بالانخراط في مساعيه المستقبلية بعقل متفتح وقلب مطمئن. إن التعايش بين الجهد والتوكل يجعل الفرد أكثر مرونة في مواجهة الإخفاقات وأكثر تواضعًا في مواجهة الانتصارات. فالذي يسعى مع التوكل يعلم أن النجاح من فضل الله وليس مجرد ذكائه؛ وإذا فشل، يعلم أن هذا جزء من القضاء الإلهي ودرس له. هذا المنظور يؤدي إلى الابتعاد عن الغرور في النجاح وتجنب اليأس في الفشل. لهذا السبب، لا يوصي الإسلام أبدًا بالكسل وترك الأمور بالكامل لله دون أي جهد، بل يؤكد دائمًا على أن التوكل الحقيقي يحدث دائمًا بعد بذل أقصى الجهود واستخدام جميع الوسائل الممكنة. وقد أكد النبي محمد صلى الله عليه وسلم على هذا التوازن في أحاديث عديدة؛ على سبيل المثال، قصة الرجل الذي ترك ناقته دون أن يربطها وقال إنه يتوكل على الله، فرد عليه النبي: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (اربطها وتوكل)، هي مثال واضح على هذا التعليم. هذه الجملة القصيرة تلخص جوهر هذه الحكمة القرآنية بأن الجهد البدني والظاهري هو شرط مسبق للتوكل الحقيقي، وبدونه، يفقد التوكل معناه ويتحول إلى كسل وعجز. وهكذا، يمضي المؤمن، بيده المليئة بالجهد وقلبه المفعم بالتوكل، نحو أهدافه، وهو يعلم أن الله هو خير السند والمرشد.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر حكيم يبذل قصارى جهده في كل عمل، ويسلم أمره بعد ذلك لرب العالمين. في أحد الأيام، وقعت سفينته في عاصفة شديدة، وظن الجميع أن السفينة وماله وحياته قد ضاعت. لكن التاجر كان مبتسماً وهادئاً. سأله أصدقاؤه بتعجب: «كيف تكون بهذا الهدوء والاطمئنان في مثل هذا الموقف المحفوف بالمخاطر؟» أجاب التاجر: «لقد فعلت كل ما في وسعي لسلامة السفينة والبضائع؛ من إحكام الحبال إلى فحص الأشرعة. بعد أن أديت واجبي كاملاً، لم أعد أسلم قلبي للبحر والعاصفة، بل سلمت الأمر لرب البحار والبراري. الآن أعلم سواء غرقت السفينة أو وصلت سالمة، ففي ذلك خيره وحكمته. فلماذا أحزن؟» وبالفعل، بعد فترة، جاء الخبر بأن السفينة، بتدبير ولطف إلهي، قد نجت من الهلاك ووصلت إلى الشاطئ الآمن بضرر طفيف. هذه القصة تذكرنا بنقطة قالها سعدي: «رزق كل من على العصفور من السماء يأتي، وإن لم يجلس الطائر في عشه، فسيصله؛ لكن الحكمة هي أن يطير الطائر من عشه بحثاً عن الحب.»

الأسئلة ذات الصلة