كيف يمكن للقرآن أن يصلح نظرتنا للوقت؟

القرآن يرى الوقت نعمة إلهية وميدانًا لاختبار الحياة، وليس مجرد بُعد مادي. بتأكيده على فناء الدنيا وبقاء الآخرة، وضرورة اغتنام الفرص، يغير نظرتنا من مرور الوقت السطحي إلى استغلاله بعمق وهدف لتحقيق السعادة الأبدية.

إجابة القرآن

كيف يمكن للقرآن أن يصلح نظرتنا للوقت؟

القرآن الكريم، كلام الله الهادي ودليل البشرية الشامل، لا يعلمنا فقط كيف نعيش، بل يغير نظرتنا جذريًا للمفاهيم الأساسية مثل 'الوقت'. في عالم اليوم، حيث تجعلنا سرعة الحياة العصرية غالبًا ننغمس في مرور الوقت بطريقة سطحية وغير هادفة، تقدم تعاليم القرآن إطارًا عميقًا وهادفًا لفهم الوقت وإدارته. يبدأ هذا التحول في النظرة من كون القرآن لا يرى الوقت مجرد بُعد مادي أو مجموعة من الساعات والدقائق، بل يقدمه على أنه نعمة إلهية، أمانة ثمينة، وميدان اختبار لتحقيق السعادة الأبدية. أول وأهم درس يقدمه لنا القرآن عن الوقت هو التأكيد على فناء الدنيا وبقاء الآخرة. مرارًا وتكرارًا في آيات عديدة، تُوصف الدنيا بأنها متاع قليل وزائل، بينما تُقدم الآخرة على أنها الدار الباقية والحياة الحقيقية. هذه الرؤية تعيد تعريف أولوياتنا بشكل جذري. عندما يدرك الإنسان أن عمره الدنيوي ضئيل جدًا وعابر مقارنة بالأبدية، فإنه لا يكرس كل جهده واهتمامه لجمع المال أو السلطة أو الملذات الدنيوية الفانية، بل يستثمر وقته فيما هو باقٍ ودائم: أي الأعمال الصالحة، ونيل رضوان الله، وبناء الزاد للآخرة. يعبر القرآن الكريم عن هذا المفهوم بأروع صورة؛ ففي سورة الكهف، الآية 45، يشبه حياة الدنيا بالماء الذي ينزل من السماء، فيجعل الأرض خضراء، ولكنه سرعان ما يجف وتذروه الرياح. هذا التشبيه يصور أقصى سرعة وعابرة العمر الدنيوي، ويذكر الإنسان بأن الفرصة قصيرة ويجب اغتنامها. هذه النظرة تقلل القلق الناتج عن فوات الفرص الدنيوية وتخلق سلامًا عميقًا نابعًا من الثقة في وعود الرب الأبدية. النقطة الأساسية الثانية هي التأكيد على المسؤولية واغتنام الفرص. سورة العصر، وهي من أقصر سور القرآن، لكنها في الوقت نفسه من أغنى وأعمق السور حول مفهوم الوقت. يقسم الله تعالى في هذه السورة بـ 'العصر' (الزمن) ويقول: "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)". هذا القسم بالزمن يدل على أهميته البالغة، وأن الزمن بحد ذاته شاهد على أعمالنا. البشرية كلها في خسارة وهلاك، إلا أربع مجموعات تستغل وقتها بأفضل طريقة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. هذه الآية تعلمنا أن كل لحظة تمر ولا نخطو فيها خطوة نحو الخير والصلاح، فإننا في الحقيقة نفقد جزءًا من رأسمال وجودنا. هذه البصيرة تمنع الإنسان من الكسل والتسويف والعبث، وتدفعه نحو الاستفادة القصوى والمنظمة من كل لحظة في حياته. فالمؤمن يعلم أن فرص خدمة الخلق، وطلب العلم، والعبادة، وتزكية النفس، محدودة ولا يمكن استرجاعها، فيجب استغلالها بأفضل شكل ممكن. إضافة إلى ذلك، يؤكد القرآن على أهمية الصبر والثبات على مر الزمن. فالعديد من الأهداف والنتائج المرجوة تتطلب مرور الوقت والصبر. يعلمنا القرآن بالتركيز على الصبر ألا نستعجل، وأن نتحمل الشدائد والصعوبات. إن إدراك أن كل شيء يحدث في وقته المحدد وبحكمة إلهية يجلب الطمأنينة ويمنع اليأس والإحباط. والصبر ليس مجرد تحمل سلبي، بل هو ثبات إيجابي على طريق الحق وانتظار للفتوحات الإلهية. هذه النظرة تساعد الإنسان على الاستمرارية في طريق التقدم، سواء كان فرديًا أو اجتماعيًا، وأن يسلم نتائج عمله لزمان وحكمة الرب. نقطة أخرى يعلمنا إياها القرآن هي التدبر والتفكر في الآيات الإلهية عبر مرور الزمن. يشير الله تعالى مرارًا في القرآن إلى تعاقب الليل والنهار، وشروق وغروب الشمس والقمر، وتغير الفصول كـ 'آيات' وعلامات لأولي الألباب (كما في الآية 5 من سورة يونس: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"). هذه الآيات تشجعنا على النظر إلى مرور الوقت بتأمل وتدبر بدلًا من اللامبالاة. فكل شروق وغروب، وكل تغير في الفصول، هو تذكير بقوة الله وحكمته ونظامه الفريد، ويمكن أن يعزز فينا حس الشكر والارتباط الأعمق بالخالق. هذه النظرة تملأ الحياة بالمعنى وتحول كل لحظة إلى فرصة للتواصل مع الخالق. أخيرًا، يذكرنا القرآن بـ المحافظة على التوازن بين الدنيا والآخرة في إدارة وقتنا. هذا لا يعني التخلي عن الدنيا ومباهجها الحلال، بل يعني اعتبار الدنيا وسيلة للوصول إلى الآخرة. فالسعي لطلب الرزق الحلال، وطلب العلم، وتكوين الأسرة، وخدمة المجتمع، كلها يمكن أن تُعد من الأعمال الصالحة والزاد للآخرة إذا ما نُويت بنية خالصة لوجه الله. يحذرنا القرآن من 'الإسراف' (الإفراط والإضاعة) و'اللهو واللعب' (العبث والتسلية الباطلة)، لأن هذه الأمور تفسد العمر الثمين. بهذه النظرة، يُعد أي نشاط يهدف إلى رضوان الله وسعادة الفرد والمجتمع ذا قيمة، والوقت الذي يُنفق عليه لا يضيع بل يُثاب عليه في الآخرة. باختصار، يحول القرآن نظرتنا للوقت من بُعد خطي ومادي بحت إلى بُعد متعدد الأوجه، روحي ومليء بالمسؤولية. الوقت في النظرة القرآنية هو رأسمال لكسب الأبدية، ميدان للاختبار الإلهي، ومرآة تعكس قوة الله وحكمته. بقبول هذه الرؤية، يعيش المؤمن حياته بهدف أكبر، يستغل لحظاته بأفضل شكل، وفي النهاية، يصل إلى الطمأنينة والسعادة الحقيقية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

كان يا مكان، في قديم الزمان، رجل ثري وقوي قضى حياته في جمع المال والتمتع بملذات الدنيا. كان غارقًا في الملذات الزائلة ولم يفكر قط في مصيره الأخير. بالقرب منه، كان يعيش درويش حكيم وعارف، حياته بسيطة، لكن قلبه مليء بالنور الإلهي والمعرفة. في أحد الأيام، كان الرجل الثري يتجول في حديقته الواسعة ويفكر في بناء قصر أكثر فخامة يخلد اسمه للأبد. ابتسم الدرويش عندما رآه في هذا التفكير وقال: 'يا صديقي، هذه الأرض التي تسير عليها اليوم، عاجلًا أم آجلًا ستحتضنك. بناء قصور الدنيا زائل، أما بناء الأعمال الصالحة التي تبنيها للآخرة، فسيبقى خالدًا. وقتك رأس مال أثمن من أي كنز؛ إذا أنفقته فيما يبقى، فالفلاح نصيبك، وإذا أنفقته فيما يزول، فالندم والحسرة مصيرك.' لم يأخذ الرجل الثري كلام الدرويش على محمل الجد في البداية، لكن مرور الأيام ومشاهدة وفاة الأصدقاء والمعارف جعله يتأمل. أدرك أن الثروة والقوة لا ترافقه إلا للحظة، وأن الزاد الوحيد الذي سيأخذه معه من هذه الدنيا هو الأعمال التي قام بها في حياته المحدودة. ومنذ ذلك اليوم، تغير الرجل الثري. أنفق جزءًا من ثروته في سبيل الخير، وساعد المحتاجين، وكرس معظم وقته لتعلم المعارف الإلهية والتقرب إلى الحق تعالى. لم يعد بناء القصور أولوية بالنسبة له، بل أصبح بناء قصر من النور والإيمان في الدار الباقية هو هدفه. أدرك أن قيمة كل لحظة من العمر تتوقف على كيفية استغلالها للأبدية، وبهذه النظرة، أصبحت حياته مليئة بالمعنى والسكينة. تعلمنا قصة هذا الرجل أن الوقت هو أعظم رأسمالنا، وأن نظرة القرآن للوقت تحررنا من الغفلة وتهدينا نحو السعادة الأبدية.

الأسئلة ذات الصلة