لتحديد ما إذا كان العمل الصالح نابعاً من الإيمان، يتطلب ذلك الإخلاص في النية، أي فعل العمل خالصاً لوجه الله، وتجنب أي رياء. علامته هي الطمأنينة الداخلية وعدم الحاجة لثناء الآخرين.
أيها الأصدقاء الأعزاء، أحد أعمق الأسئلة وأكثرها جوهرية التي تثار في مسار التزكية والعبودية لكل مسلم هو: كيف يمكن للمرء أن يتأكد أن أعماله الصالحة مستقاة حقاً من نبع الإيمان الصافي، وليس من دوافع أخرى مثل الرياء، أو طلب الشهرة، أو جذب انتباه الناس؟ هذا السؤال له جذور قرآنية ونبوية، وإجابته تكمن في مفهومي «الإخلاص» و«النية»، اللذين يشكلان العمود الفقري لكل عمل صالح في الإسلام. لقد أكد القرآن الكريم مراراً على أهمية إخلاص النية في أداء كل عمل، وخاصة العبادات والأعمال الخيرية. في الواقع، قيمة أي عمل في نظر الله لا تحدد بحجمه أو كثرته، بل بصدق نيته وجودته الباطنية. المعيار الأول والأهم للتمييز بين العمل الصالح النابع من الإيمان هو «الإخلاص». الإخلاص يعني أداء العمل بنية خالصة لطلب رضا الله والتقرب إليه، دون أن يكون هناك شريك أو هدف آخر سوى هو سبحانه. عندما يؤدى العمل بإخلاص، تتلاشى جميع الدوافع الدنيوية مثل المدح البشري، أو الحصول على مكانة، أو الفوائد المادية. يقول الله تعالى في سورة البينة الآية 5: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» وهذا يعني: «وما أُمروا في كل الشرائع إلا ليعبدوا الله وحده، قاصدين بعبادتهم وجهه، مائلين عن الشرك إلى التوحيد، ويقيموا الصلاة على التمام، ويؤتوا الزكاة لمستحقيها، وذلك الذي أمروا به هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.» هذه الآية توضح صراحة أن أصل الدين والعبودية مبني على الإخلاص. ونقرأ أيضاً في سورة الزمر الآية 2: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ» وهذا يعني: «إنا أنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن بالحق، فاعبد الله وحده لا شريك له، قاصدًا بعبادتك وجهه دون سواه.» هذه الآيات تؤكد أن العبادة وأي عمل صالح لا يكتسب قيمته الحقيقية إلا إذا كان نابعاً من الإخلاص ولرضا الخالق. كيف يمكننا أن نحدد الإخلاص في أنفسنا ونتأكد من أن عملنا ينبع حقاً من إيماننا؟ هناك عدة علامات ومعايير يمكن أن تساعدنا: 1. الثبات والاستمرارية في العمل، سواء في الخفاء أو في العلن: الشخص المؤمن الحقيقي يؤدي العمل الصالح بنفس الجودة والكمية سواء كان الناس حاضرين أو غائبين. لا يهمه إن رآه أحد وامتدحه أم لا؛ دوافعه الوحيدة هي رضا الله. إذا كنا نفكر في القيام بعمل صالح فقط عندما نكون في جمع، فيجب أن نشك في نيتنا. 2. عدم انتظار مكافأة أو شكر من الناس: من كان عمله نابعاً من إيمانه، لا يتوقع الشكر أو المدح أو الجزاء من البشر. إنه يعلم أن مكافأته الحقيقية تأتي من الله سبحانه وتعالى. إذا شعرنا بالضيق لعدم تقدير أحد لجهودنا، فهذه علامة على أن جزءاً من نيتنا كان موجهاً للناس. 3. الشعور بالتواضع وعدم الغرور بعد أداء العمل: العمل الصالح الذي يؤدى بإيمان خالص لا يؤدي إلى الغرور والكبر. بل يجعل المرء يدرك فضل الله وتوفيقه، ويولد لديه شعوراً بالحقارة والصغر أمام عظمة الله. يدرك أن كل عمل صالح لا يمكن أن يتم إلا بمعونة الله، وليس هناك مجال للمدح الذاتي. 4. عدم الانزعاج من التجاهل أو الانتقاد: إذا قمنا بعمل صالح ولم يلاحظه أحد، أو حتى تعرضنا للانتقاد، فهل نشعر بالضيق والإحباط؟ من كانت نيته خالصة، لا تخرجه الانتقادات أو التجاهل عن مساره، لأن هدفه ليس البشر. 5. الطمأنينة الداخلية والرضا القلبي: العمل الخالص يمنح القلب طمأنينة وسكينة خاصة. نشعر بأننا قمنا بشيء لله، وهذا الارتباط بالخالق يؤدي إلى رضا حقيقي وراحة نفسية. 6. السعي لإخفاء العمل قدر الإمكان: على الرغم من أنه لا يمكن إخفاء جميع الأعمال (مثل صلاة الجماعة)، إلا أن الشخص المخلص في كثير من الحالات يفضل إبقاء عمله الخيري سراً لكي يحمي نفسه من وسوسة «الرياء» (التظاهر). يحذر القرآن في سورة البقرة الآية 264 بشدة من أولئك الذين ينفقون أموالهم ليراهم الناس ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ ...» وهذا يعني: «يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، لا تفسدوا أجور صدقاتكم بالمنّ على من أعطيتموه، وبالأذى له، فتكونوا بذلك كالذي ينفق ماله تظاهرًا أمام الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر...» هذه الآية تدل على أن الرياء يبطل الأعمال ويجعلها بلا ثمر. لتقوية الإخلاص والتأكد من أن أعمالنا نابعة من الإيمان، يمكننا اتخاذ خطوات عملية: * المراقبة قبل العمل: قبل أي عمل، نسأل أنفسنا: «ما هو هدفي من هذا العمل؟ هل هو لله أم للخلق؟» * المراقبة أثناء العمل: أثناء أداء العمل، كلما خطرت لنا وسوسة الرياء، نتذكر الله فوراً ونصلح نيتنا. * المحاسبة بعد العمل: بعد الانتهاء من العمل، نسأل أنفسنا: «هل حافظت على إخلاص نيتي في هذا العمل؟» وإذا كان هناك أي نقص، نطلب المغفرة من الله. * الدعاء والاستعانة بالله: نطلب دائماً من الله أن يطهر نياتنا ويحفظنا من الرياء والشرك الخفي. الدعاء: «اللهم اجعل عملي کله صالحاً، واجعله لوجهک خالصاً، ولا تجعل لأحد فیه شیئاً» (اللهم اجعل كل عملي صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً) مفيد جداً. * دراسة سيرة العظماء: من خلال دراسة حياة الأنبياء والأولياء الصالحين، الذين كانوا أمثلة بارزة للإخلاص، يمكننا أن نقتدي بهم. في الختام، الإخلاص عملية مستمرة وصراع داخلي. إنه ليس وجهة ثابتة، بل رحلة دائمة لتطهير القلب من كل الشوائب. بالممارسة، والوعي الذاتي، والاستعانة بالله، يمكننا أن نجعل أعمالنا الصالحة تنبع من إيماننا بأصدق شكل ممكن، ونتأكد أن هذه الأعمال ستكون مقبولة ومثمرة في نظر الله.
يُروى في حكايات بستان سعدي أن ملكاً عادلاً كان يراقب سلوك رعيته دائماً ليكون على علم بأحوالهم. كان في مدينته رجلان، كلاهما كانا ظاهرياً من أهل الخير والإحسان. أحدهما كان تاجراً غنياً، كلما أنفق شيئاً، أرسل المنادين ليخبروا الناس وينشروا اسمه. كان بتبجحه وريائه يَمُنّ على الفقراء ويتوقع أن يمدحه الجميع. أما الرجل الآخر في تلك المدينة، فكان درويشاً بسيطاً ومتواضعاً، كلما مد يداً للمساعدة، كان يسعى ألا يعلم أحد بذلك إلا ربه. كان في جوف الليل يحمل المؤن إلى بيوت الفقراء ويعود دون أن يتعرف عليه أحد. وإذا شكره أحد، قال فوراً: «هذا فضل من الله، ليس لي فيه أي دور.» لم يكن يتوقع المدح من الناس ولا ينتظر الشكر من أحد. في أحد الأيام، كان الملك يتجول بين الناس متخفياً. سمع الناس يتحدثون عن كرم التاجر، ولكن خلف كل مدح، كان هناك همس عن كبره وريائه. ثم وصل إلى منزل الدرويش ورأى كيف أنه، بدون أي تفاخر، يشارك خبزه مع جاره الفقير. شهد الملك تواضعه وإخلاصه عن كثب. وفي المساء، استدعى الملك وزيره وقال: «في هذه المدينة، رجل خيره كله ظاهر ومجرد خداع، وآخر خيره كله مخفي ونابع من القلب. من يعمل لله، يأخذ أجره من الله ولا يحتاج إلى مدح الخلق، أما من يعمل للخلق، فأجره هو مدح الدنيا ولن يكون له نصيب في الآخرة. فاعلم أن قيمة كل عمل تكمن في نيته.» وهكذا، علم الملك شعبه أن حقيقة العمل الصالح ليست في حجمه ولا في عدد المادحين، بل في نقاء النية والإيمان الذي لا يعرف هدفاً سوى رضا الرب.