يؤكد القرآن الكريم على القيمة العالية للوقت، معتبرًا إياه أمانة إلهية. تتضمن إدارة الوقت من منظور قرآني تحديد أولويات العبادات، وطلب العلم، والعمل، والأسرة، والمجتمع، مع تجنب البطالة والمسارعة في الخيرات لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
إدارة الوقت فن حيوي لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وقد تناول القرآن الكريم هذا الموضوع برؤية عميقة وشاملة. ففي منظور القرآن، ليس الوقت مجرد مجموعة من الساعات والدقائق، بل هو أمانة إلهية وأعظم رأسمال للإنسان، وكل لحظة منه تحمل قيمة لا تقدر بثمن ويجب استغلالها بأفضل طريقة ممكنة. وهذا المنظور هو الأساس الجوهري لإدارة الوقت من وجهة نظر قرآنية. من أبرز التعاليم القرآنية في هذا الصدد مفهوم "المسؤولية" عن العمر والوقت. كل لحظة من حياتنا تسجل، وفي يوم من الأيام سنسأل عن كيفية استخدامنا لهذا الرأسمال العظيم. سورة العصر، بقسمها بالوقت، تُبين بوضوح أن الإنسان في خسران، إلا الذين استغلوا فرصتهم في العمر للإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. هذه الآيات تقدم صورة شاملة لإدارة الوقت القرآنية: فالوقت الذي لا يقترن بالإيمان، والعمل الصالح، والالتزامات الاجتماعية (التواصي بالحق والصبر)، يؤدي إلى الخسارة. لذلك، فإن الخطوة الأولى في إدارة الوقت هي إدراك هذه المسؤولية وتقدير لحظات الحياة. يؤكد القرآن أيضًا على "تحديد الأولويات" في المهام والأنشطة. فحياة المؤمن حياة هادفة، حيث يمثل رضا الله وتحصيل الآخرة الأولوية القصوى. هذا التحديد للأولويات لا يعني تجاهل الدنيا، بل يعني رؤية الدنيا في ضوء الآخرة. يجب أن تكون أنشطتنا موجهة نحو التقرب إلى الله وخدمة الخلق. وفي هذا الإطار، تعتبر العبادات الواجبة كالصلاة التي لها أوقات محددة، شكلاً من أشكال تنظيم الوقت اليومي. يقول القرآن: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا" (النساء: 103). وهذا يدل على أن النظام والمواعيد في أداء الواجب الأهم، هو مبدأ أساسي ينبغي أن ينسحب على سائر الأمور. "كسب الرزق الحلال" و"السعي في المعيشة" محوران آخران يحظيان بتأكيد كبير في القرآن ويعدان جزءًا من إدارة الوقت. فآيات عديدة تشجع الإنسان على العمل والسعي لتلبية حاجاته وحاجات أسرته. لكن هذا العمل يجب ألا يمنع أداء العبادات أو ينسي الآخرة؛ بل يجب أن يُؤدى بهدف نيل رضا الله وخدمة الأسرة. على سبيل المثال، الآيات المتعلقة بيوم الجمعة (الجمعة: 9-10) تأمر المؤمنين بالتفرق في الأرض بعد الانتهاء من صلاة الجمعة وابتغاء فضل الله. وهذا يعلمنا نوعًا من التوازن والتخطيط بين العبادات والأنشطة الدنيوية. كما يؤكد القرآن على "تجنب البطالة وإضاعة الوقت". فالمؤمن الحقيقي هو الذي يعرض عن اللهو واللعب والأعمال التي لا طائل منها، ولا يصرف وقته فيما لا ينفع. فالانشغال بما يؤدي إلى الغفلة عن ذكر الله وإضاعة الفرص، مذموم من وجهة نظر قرآنية. وهذا يعني أن كل نشاط يجب أن يكون له هدف بناء ومشروع، ويساهم في النمو الفردي أو الاجتماعي. "الاستفادة المثلى من الليل والنهار" تعليم قرآني آخر في إدارة الوقت. فقد جعل الله في القرآن الليل للراحة والسكون والنهار للسعي وطلب الرزق. هذا التقسيم الطبيعي يمثل نموذجًا لتخطيطنا اليومي الذي يوضح كيفية تحقيق التوازن بين العمل والراحة. "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا" (الفرقان: 62). هذه الآية تبين أن الليل والنهار فرص للتأمل والشكر والسعي ينبغي أن تقدر. "المسارعة في الخيرات" و"الاستباق إلى الحسنات" من المبادئ القرآنية الأخرى التي تشير بشكل غير مباشر إلى إدارة الوقت. فالقرآن يشجع المؤمنين على التسابق في أداء الأعمال الصالحة واغتنام الفرص للتقرب إلى الله. وهذا يعني عدم التأخير في عمل الخير واستغلال كل فرصة للإحسان، لأن الفرص قد لا تتكرر. "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (البقرة: 148). هذا الأمر الإلهي يتطلب يقظة وتخطيطًا لإيجاد أفضل الأوقات لأداء أفضل الأعمال. وأخيرًا، "التوازن بين الدنيا والآخرة" مبدأ أساسي في إدارة الوقت القرآنية. فالمؤمن لا يخطط لحياة الدنيا فحسب، بل ينظر إلى الأبدية، وينظم وقته بحيث يعمر دنياه وآخرته معًا. هذا التوازن لا يعني تخصيص نصف الوقت للدنيا والنصف الآخر للآخرة، بل يعني أن تكون جميع أنشطتنا الدنيوية مصحوبة بنية إلهية وهدف أخروي. فالحياة من منظور القرآن هي مزرعة تُزرع فيها بذور العمل الصالح لتثمر في الآخرة. وإدارة الوقت في هذا المنظور تعني زرع هذه البذور بذكاء واستمرارية، دون لحظة غفلة أو بطالة. فبالالتزام بهذه المبادئ، يمكن للمسلم أن يعيش حياة مثمرة تنال رضا الله وتؤدي إلى السعادة الحقيقية. الخلاصة: إدارة الوقت من منظور القرآن تتجاوز كونها مجرد تقنية أو منهج؛ إنها نظرة عالمية تعتبر الوقت أمانة إلهية وفرصة للنمو والتقرب إلى الله. يشمل هذا النهج المسؤولية عن كل لحظة، وتحديد الأولويات بناءً على رضا الله، وتجنب الهدر، والاستخدام الأمثل لليل والنهار، والمسارعة في الخيرات، والحفاظ على التوازن بين الدنيا والآخرة. باتباع هذه المبادئ، يمكن للإنسان أن يستغل رأسمال عمره الثمين بأفضل شكل ويحقق الفلاح والنجاح.
يُحكى أن شابًا كسولًا متراخيًا كان جالسًا ذات يوم تحت ظل شجرة، معرضًا عن أعمال الدنيا. مر به شيخ حكيم فقال له: "يا شاب، العمر كالماء الجاري في النهر، يجري باستمرار ولا يعود أبدًا. كل لحظة تضيعها هي فرصة ضائعة لزرع بذور الخير في حقل الدنيا. كيف تتوقع أن تحصد محصولًا جيدًا في الآخرة بينما لم تزرع بذرة في الدنيا؟" فاستمع الشاب لنصيحة الشيخ، ومنذ ذلك الحين سعى جاهدًا ألا يضيع لحظات عمره في البطالة، وأن يجتهد في طلب العلم والعمل الصالح، لكي لا يكون من الخاسرين وينتفع ببركة الوقت. واجتهد في هذا الطريق حتى وجد عاقبة حسنة وذكر اسمه بالخير.