يعرف القرآن الهوية الإنسانية من خلال الخلق الهادف، نفخ الروح الإلهية، ومسؤولية الخلافة الإلهية على الأرض. الإنسان كائن ذو إرادة حرة وفطرة نقية وهدف نهائي هو العبادة والعودة إلى الله.
إن سؤال الهوية الإنسانية هو أحد أعمق وأهم الأسئلة التي لطالما شغلت ذهن البشر. فالقرآن الكريم، بصفته كلام الله الموحى والمرشد الكامل للحياة، يقدم إجابة شاملة ومتعددة الأوجه لهذا السؤال الأساسي، متجاوزاً الأبعاد المادية ليتناول الجوانب الروحية والأخلاقية للوجود البشري. الهوية الإنسانية في القرآن لا تُعرّف بالميلاد الجسدي فحسب، بل تُعرّف بالخلق الهادف، والمكانة الخاصة في الكون، والمسؤولية اللامتناهية أمام الخالق. هذا المنظور القرآني يمنح الإنسان معنى عميقاً ومكانة سامية وطريقاً واضحاً للسعادة الأبدية. في البداية، يؤكد القرآن على الأصل الإلهي والسامي للإنسان. فالبشر مخلوقات خلقها الله بيده من "طين" أو "تراب" (عناصر ترابية)، ثم نفخ فيها من "روحه" التي لا متناهية. هذان الجانبان، المادي والروحي، متداخلان في الهوية الإنسانية منذ البداية، ويمنحانه طبيعة مزدوجة. الجانب المادي يربط الإنسان بالأرض والطبيعة والمخلوقات الأخرى، ويمكنه من العيش في العالم الجسدي. بينما نفخ الروح الإلهية يمنحه كرامة خاصة، وقدرات لا مثيل لها، ومكانة فريدة تميزه عن سائر الكائنات، وتمنحه القدرة على إدراك الغيب والتواصل مع الإلهي. يقول الله تعالى في سورة الحجر، الآية 29: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين). هذه الآية تبرز بوضوح عظمة الإنسان ووجود جوهر إلهي في ذاته، جوهر تحترمه الملائكة المقربون أنفسهم وتسجد له. هذه "الروح الإلهية" هي مصدر المعرفة والعقل والإرادة والاختيار والضمير وقوة التمييز في الإنسان، وتشكل أساس هويته الروحية والأخلاقية والسامية. علاوة على ذلك، يوضح القرآن الطبيعة الهادفة لخلق الإنسان، ويؤكد أن وجود البشر ليس عبثياً أو بلا معنى. فالبشر ليسوا مجرد كائنات مادية وحيوية بحتة؛ بل هم مخلوقون لغاية سامية وهدف نهائي محدد: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، الآية 56: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). العبادة هنا لا تقتصر على أداء الشعائر والطقوس الظاهرية فحسب، بل تشمل مفهوماً أوسع، يتضمن فهماً عميقاً لله، وطاعة لأوامره ونواهيه في جميع جوانب الحياة، والعيش وفقاً للقيم الإلهية، وفي نهاية المطاف، تحقيق العبودية الكاملة والخضوع التام لإرادة الخالق. هذا الهدف السامي يوجه الهوية الإنسانية، ويمنح حياتهم معنى عميقاً، ويعلمهم أن وجودهم يحمل معنى يتجاوز الملذات الدنيوية الزائلة والشهوات النفسية والطموحات المادية. في هذا المسار، يختار البشر بإرادتهم بين طريق الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وهذه الاختيارات الواعية هي التي تشكل هويتهم الحقيقية وسيرتهم الباطنية، وتحدد مصيرهم الأخروي. بعد آخر حيوي ومتميز للهوية الإنسانية في القرآن هو مفهوم "الخلافة" أو الاستخلاف الإلهي في الأرض. ففي سورة البقرة، الآية 30، نقرأ: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). هذه الخلافة تضع مسؤولية عظيمة على عاتق الإنسان: إعمار الأرض، وإقامة العدل، وإدارة الموارد الطبيعية والبشرية بحكمة، وقيادة سائر المخلوقات وفقاً للأهداف الإلهية والقيم التوحيدية. فالإنسان بصفته خليفة، يمتلك قوة التمييز، والعلم، والإرادة الحرة، والقدرة على التعلم، مما يمكنه من الوفاء بهذه المسؤولية الجسيمة وإدارة الأرض بأفضل وجه ممكن. هذا الدور السامي يحدد الهوية الإنسانية ككائن فعال، ومسؤول، ويمتلك إمكانات هائلة للتأثير الإيجابي في العالم وعامل خير وصلاح. هذا الدور يخرج الإنسان من السلبية ويدفعه نحو البناء والتقدم وأداء الواجب الإلهي. يؤكد القرآن بقوة على عنصر "حرية الإرادة" و"الاختيار" في الإنسان، وهي من أبرز سمات هويته. فخلافاً للكائنات الأخرى التي تتصرف غريزياً وتخضع لجبر الطبيعة، يمتلك الإنسان قوة الاختيار، وهذه القوة بالذات تجعله مسؤولاً ومحاسباً على أفعاله. "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان، الآية 3: إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). هذه الحرية تحدد الهوية الإنسانية ككائن ذي خيارات أخلاقية ومسؤول عن مصيره الخاص. والثواب والعقاب في الآخرة يستندان أيضاً إلى هذه الإرادة الحرة والعمل الواعي. ففي رحلة حياتهم، يتصارع البشر باستمرار بين ميول الخير والشر، الهداية والضلال، الإيمان والكفر، والفضيلة والرذيلة. وتتجلى هويتهم في اختياراتهم، سواء نحو النور أو نحو الظلام. هذا الصراع الداخلي الذي يشير إليه القرآن بـ "النفس الأمارة بالسوء" و "النفس اللوامة" يشكل جزءاً مهماً من كفاح الإنسان لتشكيل هويته الحقيقية. علاوة على ذلك، يشير القرآن إلى "فطرة" الإنسان. الفطرة هي الفطرة النقية والإلهية التي خلق الله الإنسان عليها؛ فطرة تميل بطبيعتها إلى التوحيد وعبادة الله، وإلى العدل والحق والفضائل الأخلاقية. "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (الروم، الآية 30: فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). هذه الفطرة جزء لا يتجزأ من الهوية الإنسانية الحقيقية التي يمكن أن تغطيها الذنوب والغفلة والتعلقات الدنيوية والتربية الخاطئة، ولكنها لا تزول أبداً. وطريق تزكية النفس والتذكر لهذه الفطرة هو سبيل العودة إلى الهوية الإنسانية الحقيقية، الإلهية والمتسامية. إن التقوى والوعي الذاتي تجاه هذه الفطرة تدفع الإنسان نحو الكمال. في الختام، الهوية الإنسانية في القرآن هي هوية ديناميكية، متغيرة، ومتطورة. فخلال حياتهم، يشكل البشر هويتهم وينضجونها من خلال أفعالهم واختياراتهم ونواياهم وجهودهم. هذه الهوية لها أبعاد فردية واجتماعية. فالبشر ليسوا كائنات منعزلة؛ بل هم جزء لا يتجزأ من المجتمع البشري الأكبر، وعلاقاتهم مع الآخرين، بما في ذلك الاحترام المتبادل، والعدالة الاجتماعية، والإحسان والتعاطف، تشكل أيضاً جزءاً لا غنى عنه من هويتهم. تدعو الهوية القرآنية الإنسان إلى معرفة الذات العميقة، ومعرفة الله الحقيقية، والعيش الهادف لتحقيق السعادة الحقيقية الأبدية في الدنيا والآخرة. هذه الهوية في نهاية المطاف، تتوج بالعودة إلى الله وحساب الأعمال يوم القيامة، حيث ستُكشف كل نفس بهويتها الحقيقية والباطنية. ولذلك، فإن الهوية الإنسانية في القرآن هي مزيج رائع من الأصل الإلهي، والهدف السامي، والمسؤولية الجسيمة، والإرادة الحرة الكاملة، والفطرة النقية، والمصير الأبدي، وكل بُعد من هذه الأبعاد يشكل جزءاً مهماً من تعريف "من أنا؟". هذا المنظور الشامل والسامي يصور الإنسان ليس فقط ككائن مادي وفانٍ، بل ككائن روحي، ومسؤول، ومختار، وديناميكي، ومتطور في طريق نحو الكمال المطلق، يمتلك القدرة على تجلي الصفات الإلهية. وهذا التعقيد والعمق يزيد من جمال الهوية الإنسانية في المنظور القرآني.
يُروى أن ملكاً ذا عظمة وجاهٍ، كان يوماً يتباهى بغرور بقصره الفخم وكنوزه التي لا تُحصى، معتقداً أن هويته تُعرّف فقط بهذه الممتلكات الهائلة. وفي أحد الأيام، مر درويش متواضع، يرتدي ثياباً مرقعة بسيطة، بجانب قصره. استدعاه الملك بدافع الفضول، أو ربما لإظهار عظمته، وسأله: "أيها الحكيم، ما هي هويتك؟ فأنا، كما ترى، ملك هذه الأرض، وأمتلك كل ما يمكن أن يتمناه إنسان." ابتسم الدرويش بلطف وأجاب: "أيها الملك، هويتك، مثلي، ليست فيما تملك، بل فيما أنت عليه. فهذا القصر وهذه الكنوز، وإن كانت رائعة، فهي مستعارة من الأرض وستعود إليها يوماً ما. هويتك الحقيقية تكمن في الروح التي تحييك، في الحكمة التي تكتسبها، في العدل الذي تقيمه، وفي الإحسان الذي تقدمه. هذه هي الكنوز التي ترافقك إلى ما وراء هذا العالم الفاني." تأمل الملك كلمات الدرويش بعمق. أدرك أن ذاته الحقيقية ليست تاجه ولا ذهبه، بل الجوهر الذي نفخ الله فيه، والقدرة على فعل الخير، والعلم الذي يمكنه أن يكتسبه. ومنذ ذلك اليوم، سعى إلى تنمية ذاته الداخلية، مدركاً أن أعظم كنز للملك هو الشخصية النبيلة والروح الفاضلة، التي تُعرّف هويته حقاً.