يرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة الذات بدعوة للتأمل في خلق الإنسان، وتقديم الفطرة الإلهية، وتوضيح أبعاد النفس. يُبين هذا الكتاب الإلهي طريق الوصول إلى السلام الداخلي وفهم هدف الحياة من خلال معرفة الذات وعلاقتها بالله.
القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية، يتجاوز كونه مجرد مجموعة من الأحكام والتعاليم؛ إنه يلعب دور المنارة الساطعة في مسار معرفة الذات المعقد للبشرية. يدعو هذا الكتاب السماوي، بنظرته العميقة والشاملة لحقيقة الوجود الإنساني، الفرد إلى التأمل في نفسه، واكتشاف فطرته الإلهية، وإدراك مكانته الحقيقية في الكون. رحلة معرفة الذات في ضوء القرآن هي رحلة داخلية تبدأ بمعرفة المبدأ والمعاد، وتؤدي إلى فهم أعمق لقدرات الإنسان، ونقاط قوته وضعفه، ومسؤولياته الفردية والاجتماعية. يخرجنا القرآن من وهم أن وجودنا مجرد مجموعة من الجسد والغرائز، ويشير إلى الروح الإلهية التي نفخت في وجودنا، وهي روح وفطرة نقية كامنة في أعماق كل إنسان، وتميل إلى الحق والحقيقة والخير. هذه الرحلة لا تؤدي فقط إلى فهم أفضل للذات، بل تعمق اتصالنا بخالق الكون، الله سبحانه وتعالى، وتمنح حياتنا معنى واتجاهًا. معرفة الذات القرآنية تعني إدراك الإمكانيات الكامنة والفعلية، وفهم جذور الضعف والانحرافات، وفي النهاية السعي للتزكية والنمو في المسار الإلهي. من أهم الخطوات الأساسية في معرفة الذات القرآنية هو فهم مكانة الإنسان بصفته "خليفة الله" على الأرض. هذا المفهوم ورد في سورة البقرة، الآية 30، حيث يقول الله للملائكة: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". هذه الخلافة لا تدل فقط على كرامة الإنسان وقيمته العالية، بل تضع عليه أيضًا عبئًا ثقيلًا من المسؤولية. عندما يدرك الإنسان هذه المكانة، يدرك أنه لم يُخلق فقط للأكل والنوم والملذات المادية، بل له رسالة إلهية في إعمار الأرض، وإقامة العدل، وتجلي الصفات الإلهية. هذا الفهم العميق يولد دافعًا قويًا للنمو الروحي والأخلاقي فيه، وينقذه من الغفلة والعبثية. تتضمن معرفة الذات القرآنية أيضًا إدراك الضعف والقيود البشرية؛ يشير القرآن إلى الطمع، وكفران النعمة، والعجلة، وظلم النفس الأمارة بالسوء، حتى يتقدم الإنسان، وهو على دراية بهذه الجوانب المظلمة من وجوده، في تهذيب نفسه وتزكيتها ويتحرر من مصائد الشيطان وأهواء الدنيا. هذا الإقرار بالنقائص ليس لليأس، بل لخلق الدافع نحو الإصلاح والتحسين. يدعو القرآن الإنسان في آيات متعددة إلى مشاهدة آيات الله وقدرته وحكمته في "الآفاق" (العالم الخارجي) و"الأنفس" (داخله). في سورة الذاريات، الآيتان 20 و 21، يقول الله تعالى: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ٭ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ". تذكرنا هذه الآيات بأن أعظم دروس معرفة الله وعلم الوجود تكمن في أنفسنا. التأمل في خلق جسم الإنسان، وتعقيدات الدماغ، والمشاعر والعواطف، والنظام المذهل للحياة، كلها نوافذ على عظمة الخالق وفهم أفضل لذاتنا. عندما يتأمل الإنسان في هذه الآيات الداخلية، يدرك ضآلته واعتماده على القوة الإلهية الأزلية، ويتحرر من الكبر والغرور. هذا النوع من النظر إلى الذات يغير نظرة الإنسان إلى الحياة وهدفها، ويضعه على المسار الصحيح نحو الكمال. هذا التأمل ليس مجرد تمرين عقلي، بل هو تجربة قلبية تدفع الروح نحو قبول الحقائق الإلهية وتقوي الإيمان في نفس الإنسان. من المحاور الرئيسية الأخرى لمعرفة الذات في القرآن هو مفهوم "الفطرة". في سورة الروم، الآية 30، يقول الله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". تشير هذه الآية إلى أن الإنسان خُلق بميل فطري نحو التوحيد، والبحث عن الحق، وحب الخير. هذه الفطرة هي الضمير الحي والصوت الداخلي الذي يدفع الإنسان نحو الخيرات ويمنعه من السيئات. معرفة الذات القرآنية تعني العودة إلى هذه الفطرة النقية وإزالة غبار الذنوب والنسيان عنها. كلما ابتعد الإنسان عن هذه الفطرة الإلهية، ابتعد عن ذاته الحقيقية وعانى من الضياع والعبثية. يوضح لنا القرآن، بتذكيرنا بهذه الفطرة، طريق العودة إلى الذات وإيجاد السلام الحقيقي. تتطلب هذه العودة إلى الفطرة معرفة القيم والأضداد، وتمييز الحق من الباطل، وهو ما يوضحه القرآن بوضوح ويرشدنا من خلال أمثلته وقصصه في هذا التمييز. يتناول القرآن أيضًا موضوع "النفس" وأبعادها المختلفة. تُقدم النفس في القرآن بثلاث صور: "النفس الأمارة بالسوء" (الداعية إلى الشر)، و"النفس اللوامة" (الموبخة)، و"النفس المطمئنة" (الراضية والسعيدة). توضح سورة الشمس، الآيات من 7 إلى 10، بوضوح: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ٭ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ٭ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ٭ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا". تضع هذه الآيات مفتاح بناء الذات ومعرفة الذات في أيدينا. معرفة الذات القرآنية تعني تمييز دوافع النفس الأمارة ومقاومتها، والاستماع إلى صوت النفس اللوامة وتصحيح الأخطاء، وفي النهاية الوصول إلى مرحلة النفس المطمئنة، وهي السلام الداخلي والرضا بالمسار الإلهي. لا تؤدي عملية تزكية النفس هذه إلى النمو الفردي فحسب، بل لها أيضًا تأثيرات إيجابية على العلاقات الاجتماعية والبيئة المحيطة. يوضح القرآن، بوصفه لهذه المراحل، خارطة طريق شاملة لتطور الإنسان الروحي والأخلاقي. في الختام، يذكر القرآن الإنسان بأنه كائن ذو هدف وأن هذه الحياة مجرد اختبار. هذه البصيرة تساعد الإنسان على التحرر من الانشغال ببريق الدنيا والبحث عن معنى أعمق في وجوده وحياته. هذا الكتاب المقدس، بتأكيده على مسؤولية الإنسان عن أفعاله، يعزز فيه حس المسؤولية ويدفعه نحو خيارات واعية وصالحة. وهكذا، فإن القرآن لا يعرفنا بالحقائق الخارجية فحسب، بل يدعونا أيضًا إلى رحلة استكشافية في أعماق وجودنا لنتعرف على ذواتنا الحقيقية في مرآة الكلام الإلهي ونصل إلى أعلى درجات الكمال. هذا المسار مليء بالنور والبصيرة، وكل خطوة فيه تزيل حجابًا عن جوانب مجهولة من الوجود الإنساني وتقربه من مصدر السلام والمعنى. يوفر القرآن، بتقديمه لمفاهيم سامية مثل التوحيد، والمعاد، والنبوة، والأخلاق، إطارًا لفهم صحيح للوجود ومكانة الإنسان فيه. فهم هذه المفاهيم هو الأساس لمعرفة الذات الحقيقية وهدف الحياة، وبدونها، ستكون معرفة الذات ناقصة ومضللة. ولهذا، فإن القرآن ليس مجرد دليل، بل هو رفيق دائم في هذه الرحلة العظيمة لمعرفة الذات.
يُروى في "گلستان" لسعدي أن ملكًا كان ذا ثراء وقوة عظيمين، خزائنه تفيض بالذهب والجواهر وجيوشه لا تُعد ولا تحصى. ومع ذلك، كان دائمًا يشعر بفراغ وقلق في داخله. ذات يوم، أتى حكيم إلى بلاطه. سأله الملك: "أيها الحكيم، مع كل هذا الثراء والسلطان، لماذا لا يهدأ قلبي وأشعر أنني أضعت نفسي؟" ابتسم الحكيم وقال: "أيها الملك، أنت كنهر متدفق تختبر مياهه بحثًا عن الذهب والحصى، ولا تلتفت أبدًا إلى منبعك وأصلك. ثروتك وقوتك خارجيتان لك، أما معرفة الذات والسلام الداخلي فينبعان من عين ماء في أعماق وجودك، وقد استقرت عليها غبار الدنيا." تأثر الملك بكلام الحكيم. تابع الحكيم: "ألا تنظر في نفسك كيف خُلقت؟ ألا تنتبه لقلبك كيف زُرعت فيه بذور الخير والشر؟ معرفة الذات هي إيجاد ذلك النبع الصافي في الداخل، الذي يُحيى بالتزكية وذكر الله." من ذلك اليوم فصاعدًا، بدلاً من زيادة ثروته الظاهرية، انشغل الملك بتطهير باطنه ومعرفة نفسه، وتدرج في تذوق طعم السلام والرضا الحقيقي، وأدرك أن أعظم ملك هو الملك على النفس.