كيف يجمع القرآن بين حرية الإنسان في الاختيار وعلم الله المسبق؟

يؤكد القرآن على حرية الاختيار البشري ومسؤوليته عن الأفعال، بينما يثبت علم الله المسبق المطلق. ولا يتعارض هذان الأمران؛ لأن علم الله يعني معرفته لما سيختاره الإنسان بإرادته الحرة، لا إجباره على فعل ذلك.

إجابة القرآن

كيف يجمع القرآن بين حرية الإنسان في الاختيار وعلم الله المسبق؟

مسألة كيفية توافق حرية الإنسان في الاختيار مع علم الله المسبق (علم الغيب) هي واحدة من أعمق القضايا اللاهوتية وأكثرها دقة في الفكر الإسلامي، وقد تناولها القرآن الكريم بعمق ودقة ملحوظين. غالبًا ما يكون هذا التناقض الظاهري مصدرًا للتأمل وأحيانًا للالتباس، لكن المنظور القرآني يقدم تسوية متناغمة تؤكد كلًا من فاعلية الإنسان وعلم الله المطلق. في جوهره، يؤكد القرآن بشكل لا لبس فيه على حرية الإنسان في الاختيار والمسؤولية. ففي جميع آياته، يُحاسب الأفراد على أفعالهم وأفكارهم ونواياهم، ويُوعَدون بالمكافآت على الأعمال الصالحة والعواقب على الأعمال السيئة. هذا التأكيد على المساءلة يستلزم بطبيعة الحال وجود الاختيار. فلو كان البشر مجرد دُمى تعمل وفقًا لسيناريو محدد سلفًا، لَفَقَدَت مفاهيم العدل، والمكافأة، والعقاب، والتوبة معناها تمامًا. على سبيل المثال، في سورة الكهف (18:29)، يقول الله تعالى: "و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". هذه الآية إعلان واضح لحرية الإنسان في اختيار الإيمان أو الكفر، مما يؤكد أن الإيمان قرار واعي. وبالمثل، تُعلن سورة الإنسان (76:3): "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا". هذا يشير إلى أن الله قد بين للإنسانية طريق الهداية، لكن قرار اتباعه أو الانحراف عنه يقع بالكامل على عاتق الفرد. إن الأوامر والنواهي العديدة في القرآن، إلى جانب الدعوة إلى التفكر والسعي (جهاد النفس)، كلها تؤكد حقيقة الاختيار البشري. لسنا مُكرَهين؛ بل نحن مُمكنون لاتخاذ القرارات ومسؤولون عنها لاحقًا. إن الغاية الأساسية من الحياة، كما يقدمها القرآن، هي الابتلاء (الاختبار)، والاختبار لا يكون له معنى إلا إذا كان للمُختبَر خيارات حقيقية وقدرة على اتخاذها. في الوقت نفسه، يؤكد القرآن بنفس القدر على علم الله المطلق والشامل. فالله هو العليم والخبير. علمه لا يحدده زمان ولا مكان؛ فهو يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وصولًا إلى أدق التفاصيل. تُظهر سورة الأنعام (6:59) هذه النقطة بجمال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين". هذه الآية تنقل بقوة النطاق اللامحدود للعلم الإلهي، الذي يشمل كل حدث، وكل فكر، وكل نية قبل حدوثها. هذا العلم المسبق الكامل جزء لا يتجزأ من كماله الإلهي وربوبيته. مفهوم اللوح المحفوظ يعزز هذا الأمر، حيث يُفهم على أنه السجل الإلهي الذي سُجل فيه كل ما سيحدث إلى الأبد، ليكون شاهدًا على علم الله التام. يكمن التوفيق في فهم طبيعة العلم الإلهي. فعلم الله المسبق ليس قوة سببية. من الأهمية بمكان التمييز بين "المعرفة" و"التسبب". عندما يعلم الله ما سنختاره، فإنه يعلمه لأنه مدرك بلا حدود لجميع الاحتمالات والنتيجة النهائية لخياراتنا الحرة. فعلمه لا يُكرهنا على التصرف بطريقة معينة؛ بل إنه يعكس ما سنختاره نحن، من خلال إرادتنا الحرة، أن نفعله. تخيل مراقبًا مثاليًا وعالمًا بكل شيء يمكنه التنبؤ بكل خطوة في لعبة شطرنج معقدة قبل أن تبدأ. تنبؤه المثالي لا يُجبر اللاعبين على اتخاذ تلك الحركات؛ بل لا يزالون يتخذون خياراتهم بحرية وفقًا لفهمهم واستراتيجيتهم. وبالمثل، فإن علم الله بأفعالنا المستقبلية لا ينفي حريتنا في أداء تلك الأفعال. إنه يعلم لأنه خلقنا بقدرة على الاختيار ويعلم بدقة كيف سنمارس تلك القدرة. علمه انعكاس للواقع كما سيتجلى، وليس محددًا له. علاوة على ذلك، يقدم القرآن مفهوم القَدَر (التقدير الإلهي) والقضاء (الحكم الإلهي أو التنفيذ). فالقدر ليس جبرًا بمعنى أن أفعالنا محددة سلفًا بشكل صارم وليس لنا دور فيها. بل، القدر هو النظام والإطار الإلهي الذي أُنشئ للكون، والذي تعمل ضمنه حرية الإنسان في الاختيار. إنه يشمل القوانين الكونية للسبب والنتيجة، وعواقب الأفعال، والطبيعة المتأصلة للأشياء. الإرادة الإلهية الكونية (المشيئة) تسمح بوجود إرادة الإنسان ووظيفتها. عندما يقول القرآن: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" (التكوير 81:29)، فهذا يعني أن إرادة الإنسان مشروطة وتعمل ضمن إرادة الله الشاملة والمُبيحة. هذا يعني أن قدرتنا على الإرادة والعمل هي هبة من الله، وأن خياراتنا لا تكون فعالة إلا لأن الله يسمح لها بذلك ضمن المخطط العظيم للخلق. هذا لا يعني أن الله يُجبرنا على اختياراتنا المحددة أو ينكر علينا فاعليتنا الحقيقية. خياراتنا حقيقية، وعواقبها حقيقية ومسجلة أبدًا. باختصار، علم الله أشبه بسجل كامل للخيارات التي ستُتخذ، وليس سيناريو يجب اتباعه دون انحراف. يُعطى الإنسان العقل والمنطق والإرشاد الإلهي (من خلال الأنبياء والكتب السماوية) ليميز الصواب من الخطأ. ثم يُمكن من التصرف بناءً على تمييزه. يؤكد القرآن على أهمية النية والسعي، وكلاهما بلا معنى بدون حرية الاختيار. سعينا وخياراتنا تحدد مسارنا، وعلم الله يشمل هذه الخيارات ونتائجها. يسمح هذا النهج اللاهوتي بالعدالة الإلهية الكاملة، حيث يكافأ الأفراد أو يعاقبون بإنصاف بناءً على خياراتهم الواعية، بينما يؤكد في الوقت نفسه السيادة المطلقة وعلم الله الشامل. إنه سر عميق، لا يُفهم كتناقض، بل كتفاعل متناغم بين حكمة الخالق اللانهائية والاستقلالية الهادفة الممنوحة لخلقه. إنه يشجع على المشاركة الفعالة في الحياة، وتشجيع الأعمال الصالحة والتوبة الصادقة، بدلًا من الجبرية السلبية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

ذات مرة، في حدائق شيراز الخضراء، انطلق مسافران في رحلة. كان أحدهما دؤوبًا دائمًا، يخطط لمساره بدقة، ويجهز مؤونته، ويبحث عن أكثر الطرق أمانًا. أما الآخر، فكان يعتمد كليًا على القدر، وينطلق بتهور، قائلاً: "ما قدره الله سيكون." واجه كلاهما صعوبات. المسافر الدؤوب، بفضل بصيرته وجهده، تجاوز التحديات بمرونة، لأنه كان مستعدًا. أما المسافر المتهور، فقد واجه عواقب وخيمة، ملقيًا اللوم على القدر وحده. لاحظ شيخ حكيم اختلاف مصيريهما، فقال: "بالتأكيد، الله يعلم كل ما سيحدث، حتى قبل أن يتشكل. ومع ذلك، فقد وهب البشر أيضًا قوة الاختيار والسعي. فالدؤوب، على الرغم من أن الله كان يعلم مساره، إلا أنه اختار بنشاط طريق الجهد، وهكذا تكشفت قدره من خلال أفعاله. أما المتهور، فقد عاش قدره أيضًا، لكن قدره تشكل باختياراته المهملة. فحقًا، القدر الإلهي ليس قيدًا على يد الإنسان، بل هو نسيج عظيم تُنسج فيه كل خيط من خياراته من قبل النساج نفسه، ومعلوم مسبقًا لدى النساج الأكبر."

الأسئلة ذات الصلة