يؤكد القرآن الكريم على الدور المحوري لنقاء النية كروح كل عمل، مبرزًا أن الأعمال تكتسب قيمتها الحقيقية وقبولها فقط عندما تؤدى بإخلاص ولوجه الله وحده. هذا المبدأ الأساسي يمهد الطريق للنجاح والقرب الإلهي في جميع جوانب الحياة، وليس فقط في العبادات.
في التقليد الإسلامي الغني، تُعتبر النية ونقاؤها الركيزة والأساس لكل عمل وعبادة. يؤكد القرآن الكريم بدقة وبراعة لا مثيل لهما على أهمية النية الخالصة لقبول الأعمال وتقديرها. النية هي روح العمل؛ فهي التي تبعث الحياة والمعنى في جسد أي حركة أو نشاط. لقد أكد الله تعالى مرارًا في القرآن على هذا المبدأ: أن معيار تقييم أعمال الإنسان ليس فقط مظهرها الخارجي، بل جوهرها الداخلي وهدفها والنية الكامنة وراءها. وهذا يعني أن أصغر الأعمال الصالحة، إذا أُديت بنية خالصة لوجه الله وحده، يمكن أن تحمل قيمة ومكافأة هائلتين. وفي المقابل، فإن الأعمال الكبيرة والمبهرة ظاهريًا، إذا رافقتها نية غير إلهية (مثل الرياء، أو طلب السمعة، أو حب الشهرة)، ستكون خالية من أي قيمة في نظر الله. نقاء النية هو القلب النابض للإيمان وتجلي التوحيد الحقيقي. عندما يقوم الإنسان بأي عمل صالح لوجه الله وحده وابتغاء مرضاته، فإنه في الواقع يزيل الشرك الخفي من كيانه، ويجعل الله وحده شريكًا في أعماله وعباداته. يبلغ هذا المفهوم ذروته في المصطلح القرآني 'الإخلاص'. الإخلاص يعني تطهير العمل من كل شائبة وتلوث، بما في ذلك الأنانية، والرياء، وطلب السمعة، وأي دافع دنيوي، وأداؤه خالصًا لوجه الله تعالى. هذه الجودة الداخلية تحول جميع أعمال الإنسان إلى عبادات، وحتى المهام اليومية مثل الكسب الحلال، والنوم، أو الأكل يمكن أن تتحول إلى أعمال صالحة بنية إلهية. يشير القرآن الكريم إلى أهمية الإخلاص في العديد من الآيات، داعيًا العباد إلى العبادة المخلصة. على سبيل المثال، في سورة البينة، الآية 5، يقول الله تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"، أي: "وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة". تبين هذه الآية بوضوح أن الغرض الأساسي من الخلق والتكليف الإلهي هو العبادة الخالصة. ويعني إخلاص الدين إخلاص النية والتوجّه القلبي للإنسان في جميع أعماله. وفي سورة الزمر، الآيتين 2 و 3، يقول الله أيضًا: "إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ..."، أي: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين. ألا لله الدين الخالص...". تؤكد هذه الآيات أن العبادة الوحيدة المقبولة عند الله هي تلك التي تنبع من الإخلاص ونقاء النية. فمثل هذه العبادة تحرر الإنسان من أي تبعية لغير الله وتربطه بمصدر الكمال والقوة المطلقة. كما يحذر القرآن من عواقب النوايا غير النقية. ففي سورة الكهف، الآية 110، نقرأ: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا"، أي: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا". هنا، عدم إشراك أحد يعني الشرك الجلي (عبادة الأصنام) والشرك الخفي (الرياء وطلب السمعة في الأعمال). فالعمل الصالح لا يكتسب قيمته الحقيقية إلا إذا كانت النية خلفه خالصة وتوحيدية، ولا يدخل فيه أي دافع آخر سوى رضا الله. نقاء النية يجلب السلام الداخلي والاستقرار الروحي أيضًا. فالذي يؤدي أعماله لوجه الله وحده لا يبالي بمدح الناس أو ذمهم، ولا يحزن لعدم تقدير الآخرين، وينظر فقط إلى رضا الخالق. هذا الاستقلال الروحي يخلصه من أي قلق أو تبعية، ويمهد له طريق الهداية والسعادة الأبدية. في النهاية، فإن التركيز على نقاء النية في القرآن ليس مجرد توصية أخلاقية، بل هو مبدأ أساسي في النظام القيمي الإسلامي الذي يؤثر على جميع جوانب حياة المسلم الفردية والاجتماعية. هذا المبدأ هو مفتاح قبول الأعمال، ومعيار الجزاء الإلهي، والسبيل للوصول إلى القرب الإلهي ومرضاته.
في زمانٍ مضى، في مدينة شيراز، كان هناك رجل يُدعى "صدوق"، اشتهر بتقواه وإحسانه. كل صباح، كان يذهب إلى المسجد ويساعد المحتاجين. كان الناس يمدحونه ويدعون له بالخير. في يوم من الأيام، رآه السعدي الفصيح وسأله: "يا صدوق! لأي غرض تفعل كل هذا الخير؟ هل هو للسمعة الحسنة التي تنتشر بين الناس، أم لرضا الحق تعالى؟" فكر صدوق للحظة واعترف في قلبه أنه أحيانًا لا يسلم من إعجاب الناس. أضاف السعدي بابتسامة دافئة: "يا أخي، زيّن بستان قلبك بوردة الإخلاص. فما يُعمل لرضا الخلق، هو كسراب الماء؛ وإن كان واسعًا، فإنه لا يروي ظمأً. أما ما يُعمل خالصًا لله، فإنه وإن بدا تافهًا في أعين الناس، هو عند الرب كعين لا تجف أبدًا وتروي النفوس." أدرك صدوق هذه النصيحة القيمة، ومنذ ذلك اليوم، كان يقوم بأعماله في الخفاء بعيدًا عن أنظار الناس، ويفكر فقط في رضا خالقه. فهدأ قلبه وامتلأت حياته ببركات إلهية أكثر، لأنه تعلم أن النية النقية هي كنز لا يستطيع أحد تقييمه إلا الخالق.