في القرآن، العدل والرحمة الإلهيان صفتان متكاملتان لا ينفصلان؛ فالعدل يضمن النظام والمحاسبة، بينما توفر الرحمة أساس الخلق والهداية والمغفرة.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، يُعرض صفتان من أبرز وأهم الصفات الإلهية، وهما 'العدل' و'الرحمة' الإلهية، كمتقابلتين ومتكاملتين. هاتان الصفتان، اللتان تشكلان أساس الخلق وتدبير الكون، ليستا متناقضتين، بل هما متشابكتان بأسلوب دقيق وحكيم، وتعبران عن الكمال والحكمة اللامحدودة لله. يؤكد القرآن الكريم، بتكرار اسمي 'الرحمن' و'الرحيم' في بداية كل سورة (ما عدا سورة التوبة) وفي آيات عديدة، على سعة الرحمة الإلهية اللامتناهية؛ وهي رحمة 'وسعت كل شيء' (الأعراف: 156) وتسبق غضب الله. ومن ناحية أخرى، تشير العديد من الآيات إلى عدل الله المطلق، بحيث أن الله لا يظلم أحدًا 'مثقال ذرة' (النساء: 40)، وكل نفس تجزى أو تُعاقب بقدر عملها. الرحمة الإلهية: أساس ومهد الوجود الرحمة الإلهية هي في الحقيقة أساس ومنبع الخلق وتدبير الكون. لولا رحمة الله، لما وُجد مخلوق، ولما جرت حياة. تتجلى هذه الرحمة في نطاق واسع من مظاهر الله: 1. الخلق والرزق: بخالقه ورحمته اللامتناهية، خلق الله الإنسان وجميع الكائنات وضمن لهم رزقهم. فتوفر الضروريات الأساسية للحياة مثل الهواء والماء والطعام والمأوى، كلها من مظاهر رحمته الواسعة. 2. الهداية والنبوات: من أعظم مظاهر الرحمة الإلهية إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية لهداية البشرية. فالله بذلك قد بين للإنسان طريق السعادة والفلاح، وأنقذه من الضلال والظلمات. والقرآن الكريم نفسه هو رحمة من الله يجلب النور والهداية للبشرية جمعاء. 3. التوبة والمغفرة: من أجمل تجليات رحمة الله هو الباب المفتوح دائمًا للتوبة والمغفرة. يدعو الله عباده المذنبين إلى العودة والندم، ويعد بمغفرة جميع الذنوب، شريطة التوبة الصادقة (الزمر: 53). هذا العفو والفرصة الثانية يظهران قمة الرحمة والرأفة الإلهية التي تتغلب على القسوة والرغبة في الانتقام. 4. اليسر في الأحكام: قوانين وأحكام الشريعة وضعت بهدف التيسير ورفع الحرج عن العباد. يقول الله في القرآن: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة: 185)، أي أن الله يريد لكم اليسر ولا يريد بكم العسر. وهذا بحد ذاته علامة على الرحمة الكامنة في القوانين الإلهية التي تصب في مصلحة الإنسان وخيره. العدل الإلهي: ضامن النظام والحق العدل الإلهي يعني أن الله لا يظلم أبدًا، وأنه خلق كل شيء ودبره بناءً على الحق والحكمة. لا يُظلم أحد في محضره، وكل عمل، سواء كان خيرًا أو شرًا، له نتيجة. تتضمن مظاهر العدل الإلهي ما يلي: 1. النظام والتوازن في الخلق: الكون خلق بناءً على نظام وتوازن وقوانين دقيقة ومحسوبة. من أصغر ذرة إلى أكبر المجرات، كل شيء في مكانه الصحيح، وهذا النظام الدقيق هو علامة على عدل الخالق وحكمته. لو لم يكن هناك عدل، لعمّت الفوضى والفوضى العالم. 2. الجزاء والعقاب في الآخرة: يوم القيامة هو التجلّي الكامل للعدل الإلهي. في ذلك اليوم، تُوزن أعمال كل إنسان بدقة، ويُجزى كل نفس بقدر عملها (الأنبياء: 47). لا يُظلم أحد، وتتم المحاسبة بدقة وعدل. هذا العدل يكمّل معنى مسؤولية الإنسان ويضمن تنفيذ القوانين الأخلاقية في الدنيا. 3. الحدود والقوانين الإلهية: وضع الحدود والقوانين في الشريعة يهدف إلى إقامة العدل في المجتمع. هذه القوانين تحمي حقوق الأفراد، وتمنع الظلم، وتحقق النظام الاجتماعي. العقوبات والحدود وضعت أيضًا لمنع المزيد من الفساد والظلم وضمان أمن المجتمع وسلامه، وهو بحد ذاته نوع من الرحمة العامة. العلاقة التكاملية بين العدل والرحمة العدل والرحمة الإلهيان ليسا متناقضين، بل هما متكاملان. العدل يضفي معنى على الرحمة، والرحمة تضفي رقة على العدل. * الرحمة من خلال العدل: في بعض الأحيان، يكون العدل نفسه عين الرحمة. فمثلاً، معاقبة الظالم، بينما هي عدل، هي رحمة للمظلومين وللمجتمع الذي يتضرر من ظلمه. فإذا لم يُعاقب الظالم، فإن الآخرين سيُشجعون على الظلم، وهذا الظلم يقضي على الرحمة التي يجب أن تشمل عامة الناس. لذا، فإن تطبيق العدل على الظالمين هو رحمة للصالحين وإقامة للنظام الاجتماعي. * العدل في سياق الرحمة: الرحمة الإلهية ليست عشوائية؛ بل تُطبق بناءً على حكمته وعدله. يغفر الله للمذنبين، ولكن ليس بلا سبب. فعادة ما يأتي هذا الغفران بعد التوبة الصادقة والعودة، وهو بحد ذاته نوع من العدل في التعامل مع العبد. الرحمة الإلهية تشمل أولئك الذين يستحقونها أو يسعون إليها. فلو كانت الرحمة الإلهية عشوائية، لفقد مفهوم الاختيار والمسؤولية. * التكامل في الصفات: يضمن العدل الإلهي أن يحصل كل فرد على ما يستحقه، وتوفر الرحمة الإلهية الفرصة للبشر ليصبحوا مستحقين للرحمة الإلهية من خلال التغيير والإصلاح الذاتي. في الواقع، العدل الإلهي يعطي الإنسان الأمل بأن أعماله الصالحة لن تضيع، والرحمة الإلهية تمنح الفرصة للعودة إلى النور بالتوبة حتى بعد الذنب. فالله بعدله يحفظ العالم من الفساد والظلم، وبرحمته يفتح أبواب الأمل والخلاص لعباده. هاتان الصفتان ترمز إلى التدبير الإلهي الكامل والخالي من العيوب لخلق البشرية وحياتها. الخلاصة باختصار، يوضح القرآن الكريم أن العدل والرحمة هما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما من كمالات وجود الله. العدل الإلهي يضمن النظام والحق والمحاسبة الدقيقة، بينما توفر الرحمة الإلهية سياق الخلق والهداية والمغفرة. هاتان الصفتان معًا تقدمان صورة شاملة لرب هو عادل مطلق ورحيم لا حدود له، وكل أفعاله تقوم على الحكمة والمصلحة العليا. فهم هذه العلاقة يساعد الإنسان على أن يخشى عقاب الله وفي نفس الوقت لا ييأس من رحمته، وأن يسير دائمًا على درب الاعتدال والعبودية.
يُروى أن ملكًا عادلًا أحضر أسيرًا أمامه وأمر بقتله. بدأ الأسير، الذي فقد كل أمل في الحياة، يسب ويشتم الملك في قمة يأسه. سأل الملك وزيرًا حكيمًا: «ماذا يقول؟» فأجاب الوزير بحكمة وحسن نية: «يا أيها الملك! إنه يقول: 'الجنة لمن يكظمون غيظهم ويعفون عن الناس.'» تأثر الملك بهذه الكلمات، فعفا عن الأسير وأطلق سراحه. عندئذٍ، قال وزير آخر، كان يحسد الوزير الحكيم: «يا أيها الملك! لقد كذب. كان هذا الرجل يلعنك.» ابتسم الملك وأجاب: «كذبه الذي نفع كان خيرًا من صدقك الذي أضر. ذلك الكذب كان أجمل من هذا الصدق، لأنه أتى بالصلح بينما صدقك سبب الفتنة.» تحكي هذه القصة من سعدي بجمال كيف أن الحكمة والرحمة قد تسبقان مجرد تنفيذ العدل، مما يؤدي إلى نتائج أفضل، وهذا هو التدبير الإلهي الذي يمزج العدل بالرحمة.