العلاقة بين الخوف والمحبة لله في القرآن متكاملة؛ فالخوف من عظمته يمنع الذنب، ومحبة رحمته تحفز على العبودية والقرب. وهذان الجناحان يوجهان المؤمن نحو الكمال والرضا الإلهي.
في تعاليم القرآن الكريم النورانية، العلاقة بين الخوف (الخوف والخشية) والمحبة (الحب والمودة) لله، ليست متناقضة على الإطلاق، بل هي متكاملة وتُعدّ بمثابة الجناحين اللذين يُحلق بهما الإنسان نحو الكمال والسعادة الإلهية. هذان الشعوران هما الركيزتان الأساسيتان للعبودية والاتصال العميق بالخالق، وقد تناول القرآن أهميتهما وتوازنهما بدقة بالغة. إن الخوف من الله في القرآن لا يعني الرعب أو الهلع غير المبرر، بل يعني بالأحرى الخشية والهيبة والتقوى والشعور بالمسؤولية تجاه عظمته وقوته اللانهائية. هذا الخوف، الذي ينبع من معرفة الله وفهم مكانة العبودية للإنسان، يجعل المؤمن يتجنب التمرد والعصيان، ويظل دائمًا مراقبًا لأفعاله ونواياه. فالخشية من الله تدفع الإنسان نحو التقوى؛ أي حماية النفس من الذنوب والنجاسات والالتزام بحدود الله. هذا الخوف، لا يمنع الحرية والنمو، بل يمنح الإنسان إطارًا ليتحرك في المسار الصحيح ويبتعد عن هاويات الانحراف. فعلى سبيل المثال، تشير آيات عديدة إلى أهمية التقوى التي هي الترجمة العملية لهذا الخوف أو الخشية من الله. هذه الخشية تدفع الإنسان إلى الابتعاد عما يثير غضب الله، والتوجه نحو ما يرضيه. هذا النوع من الخوف هو عامل ردع داخلي يمنع الفرد من الأعمال السيئة ويوجهه نحو النقاء والصدق. إنه أشبه بفرامل السيارة، ضروري للتحكم في الإنسان وتوجيهه في مسارات الحياة المتعرجة. من جانب آخر، تُعد المحبة لله ذروة الكمال ومطلب كل عبد مؤمن. هذه المحبة تنبع من معرفة صفات الله الجمالية؛ مثل الرحمة، والغفران، والرزق، والعطاء، والكرم اللامحدود، وكونه مصدر كل خير. عندما يتأمل الإنسان في نعم الله التي لا تُحصى، من خلق نفسه والكون إلى هداياته وألطافه المتواصلة، يمتلئ قلبه بالمحبة والشكر. هذه المحبة تدفع الإنسان نحو الطاعة، والتقرب، والتضحية في سبيل الله. فالمحبة لله هي المحرك الأساسي لأداء الأعمال الصالحة، والعبادة بشوق، وخدمة الخلق. يقوم المؤمن بالصلاة، ويصوم، ويتصدق، ويجاهد بدافع الحب، لا لمجرد الإجبار أو الخوف. يؤكد القرآن الكريم صراحة أن المؤمنين هم الذين لديهم "أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ". هذه الشدة في المحبة تدل على عمق ارتباطهم وتعلقهم بخالقهم. تمنح هذه المحبة الإنسان الطمأنينة والأمل والنشاط، وتجعله صامدًا في مواجهة صعوبات الحياة وتحدياتها. من يحب الله يسعى في كل لحظة لرضاه، وهذا الشوق يحثه على فعل أفضل الأعمال وتجنب كل ما هو مكروه. فالحب الإلهي يحرر قلب الإنسان من التعلقات الدنيوية ويهديه نحو القيم الأسمى. إنه الدافع والقوة الدافعة الرئيسية للتحرك في طريق الكمال. العلاقة بين الخوف والمحبة هي علاقة متبادلة ومتوازنة. فالخوف بدون حب يمكن أن يؤدي إلى اليأس والقنوط؛ فقد يشعر العبد أنه مهما حاول، لن يستطيع كسب رضا الله أو النجاة من عذابه. مثل هذا الخوف يدفع الإنسان نحو العزلة أو ترك العبادات. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي الحب بدون خوف إلى نوع من الغرور، أو اللامبالاة، أو الأمن الزائف؛ فقد يتصور العبد أنه بما أن الله رحيم وكريم، فإنه سيغفر كل ذنب، ولا حاجة للالتزام بالأحكام. مثل هذا الحب يدفع الإنسان نحو التساهل والغفلة. القرآن الكريم، من خلال الموازنة بين هذين الشعورين، يوضح مسار الاعتدال. فالمؤمن الحقيقي خائف من عظمة الله وفي نفس الوقت آمل في رحمته اللامتناهية. هذا الخوف والأمل، كلاهما نابع من معرفة صحيحة بالرب. فالخوف يمنع الإنسان من تجاوز حدود الله، والحب يدفعه نحو الخير والكمال. فكلاهما معًا يخلقان توازنًا روحيًا وعمليًا في الإنسان، ينتج عنه عبودية مخلصة وملتزمة. فعلى سبيل المثال، في آيات عديدة، يذكر الله العقاب والرحمة، والعذاب والمغفرة. هذا التذكير المزدوج يهدف إلى إيجاد هذا التوازن بالذات. فلا ينبغي للمؤمن أن يخاف لدرجة اليأس، ولا أن يأمل في الرحمة لدرجة الغفلة. يتجلى هذا التوازن في الحياة اليومية للمؤمن. فهو في عباداته، يتجه إلى معبوده بحب وشوق قلبي، وفي نفس الوقت، يسعى لتقديم أفضل الأعمال بدافع الخشية والخوف من التقصير في واجبات العبودية. وعند مواجهة الذنوب، فإن الخوف من عواقبها الأخروية والدنيوية يمنعه، ولكن الحب لله والأمل في مغفرته يدعوه إلى التوبة والعودة بعد ارتكاب الزلل. هذان الشعوران يمنعان الإنسان من الإفراط والتفريط، ويثبتانه على الصراط المستقيم. فالعلاقة بين الخوف والحب لله تؤدي في النهاية إلى كمال الإيمان والتقوى للعبد. فالإنسان الذي يتجه إلى ربه بقلب مملوء بالحب، وفي نفس الوقت يتجنب أي عصيان بدافع الخشية والمهابة من مقامه، يصل إلى مقام "عباد الرحمن" الذين وُصفوا بخصائص معينة في آيات القرآن. هذا التوازن يمنح الإنسان السكينة والطمأنينة والرضا الداخلي، لأنه يعلم أنه بذل قصارى جهده لكسب رضا الله وأنه كان خائفًا من عقابه. هذه العلاقة الديناميكية والمتكاملة مؤثرة ليس فقط على المستوى الفردي، بل على مستوى المجتمع أيضًا. فالمجتمع الذي يحلق أفراده بهذين الجناحين، سيكون أكثر عدلاً ورحمة وفضيلة، لأنهم يتجنبون الظلم خوفًا من العقاب الإلهي ويلتزمون بالقيم الأخلاقية بدافع الحب لله. هذان القوتان، أي الخوف والأمل، والحب والخشية، يوجهان المؤمن إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة ويهديانه إلى القرب الإلهي. بناءً على ذلك، يمكن القول إن القرآن الكريم يقدم الخوف والحب ليس كقطبين متضادين، بل كوجهين لعملة واحدة، ألا وهي العبودية الحقيقية، حيث يؤدي كل منهما دورًا حيويًا في تربية الإنسان الروحية وتكامله.
ذات يوم، كان درويش يُدعى عابد يدرس في مدرسة شيخه. كان عابد شابًا ورعًا يؤدي جميع عباداته خوفًا من العقاب الإلهي والجحيم. كان يصلي في أوقاتها ويتجنب الذنوب، لكن قلبه لم يكن يمتلك ذلك الشوق والحماسة. كان شيخه حكيمًا كبيرًا يرى أعماق نفوس تلاميذه. في أحد الأيام، سأل الشيخ عابدًا: "يا عابد! لماذا تعبد الله؟" فأجاب عابد بكل إخلاص: "خوفًا من نار جهنم ورجاءً في الجنة، يا شيخ." ابتسم الشيخ وقال: "هل رأيت عبدًا يعمل خوفًا من السوط فقط ولا يدرك محبة سيده؟ مثل هذا العبد سيهرب يومًا ما." فغرق عابد في التفكير، ومرت سنوات. تأمل في خلوته بصفات الله: كرمه، رحمته، رزقه، وجماله اللامتناهي. كلما زاد تأمله، امتلأ قلبه بالمحبة والعشق. ذات يوم، سأله الشيخ مرة أخرى: "يا عابد! لماذا تعبد الله الآن؟" أغمض عابد عينيه وأجاب بدموع الفرح: "يا شيخ! الآن أعبده لأني أحبه، لا خوفًا من العذاب ولا طمعًا في الثواب، بل لأنه وحده يستحق العبادة والحب. وبالتأكيد، هذا الحب نفسه يمنعني من الذنوب، لأني لا أريد أن أغضب قلب محبوبي." ابتسم الشيخ وقال: "بارك الله فيك! لقد تعلمت الآن الطيران بجناحين؛ خشية من عظمة الرب، ومحبة لرحمته الواسعة، وكلاهما يؤدي إلى كمال الإيمان."