يتم تحقيق توفيق الرغبات مع الحكمة الإلهية بالتوكل على الله، والصبر على الشدائد، والشكر على ما هو موجود، لأن الله أعلم بما هو خير لنا. كما أن الدعاء أداة أساسية للتوافق مع إرادته الإلهية.
إن سؤال كيفية توفيق رغباتنا مع حكمة الله اللامتناهية، هو أحد أعمق وأساسي قضايا الإنسان الروحية والوجودية. في مسار الحياة، تتشكل في أذهاننا مراراً وتكراراً آمال وخطط قد لا تتوافق أحياناً مع الحقائق الراهنة أو مع ما قدره الله. وفي هذا السياق، تعمل الحكمة الإلهية كضوء هادئ، فالله تعالى، العليم بكل الأبعاد الخفية والظاهرة للأمور، هو الخالق والمدبر للكون، وتدبيره مبني على العلم المطلق والخير المحض. لتوفيق رغباتنا مع هذه الحكمة السامية، يجب علينا العودة إلى المبادئ والتعاليم القرآنية التي تعد دليلاً شاملاً للبشرية. الخطوة الأولى والأكثر أهمية في هذا المسار هي "التوكل". التوكل يعني الاعتماد الكلي والصادق على الله في جميع الأمور. يؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على أهمية التوكل. ففي سورة الطلاق، الآية 3، يقول سبحانه وتعالى: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (ومن يتوكل على الله فهو حسبه؛ إن الله بالغ أمره؛ قد جعل الله لكل شيء قدراً). هذه الآية تمنحنا الثقة بأننا عندما نبذل قصارى جهدنا ثم نسلم النتيجة لله، فإنه سيدبر لنا أفضل الأمور. وهذا لا يعني التخلي عن السعي والعمل، بل يعني تحرير أذهاننا من القلق غير الضروري والعلم بأن الله هو الرقيب والحافظ والمدبر لشؤوننا. يمنح التوكل القلب سكينة عميقة، لأننا ندرك أن كل حدث، سواء كان خيراً أو شراً ظاهراً، هو في النهاية من جانب الحكيم المطلق ولصالحنا الأعظم، حتى لو بدا غير مرغوب فيه في البداية. هذا القبول الداخلي يجعلنا، حتى في حالة عدم تحقق رغبة معينة، أن نسلم الأمر للحكمة الكامنة فيه ونأمل في مستقبل أكثر إشراقاً، بدلاً من اليأس والقنوط. الخطوة الثانية هي "القبول والصبر". الحياة مليئة بالامتحانات والتحديات، وأحياناً لا نحقق ما نتمناه بشدة. في هذه اللحظات، يدعونا القرآن إلى الصبر. ففي سورة البقرة، الآية 153، نقرأ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة؛ إن الله مع الصابرين). الصبر ليس مجرد تحمل، بل هو الثبات على الحق والمقاومة ضد اليأس، مع الثقة في حسن العاقبة. عندما لا تتحقق رغبة ما، قد تبدو من منظورنا المحدود فشلاً، ولكن في نظر الله، قد تكون مقدمة لخير أعظم. توضح الآية 216 من سورة البقرة هذا المعنى بجمال: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم؛ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم؛ والله يعلم وأنتم لا تعلمون). هذه الآية هي منارة تهدينا، تعلمنا أن رؤيتنا محدودة، وأحياناً ما نعتبره شراً هو في الحقيقة خير محض، والعكس صحيح. الأسلوب الثالث هو "الشكر والحمد". أن نكون شاكرين على النعم التي نملكها، حتى لو لم تتحقق رغباتنا بشكل كامل، أمر بالغ الأهمية. عندما نقدر ما لدينا، يزيد الله من بركاته علينا. الشكر يحول نظرتنا مما نفتقده إلى ما نملكه، ويعزز شعور الرضا والوفرة بداخلنا. هذا التفكير الإيجابي يضعنا في حالة نفسية أفضل لقبول القدر الإلهي ويساعدنا على فهم الحكمة الكامنة فيه بشكل أفضل. المبدأ الرابع هو "الدعاء والتضرع". الدعاء ليس فقط لطلب الرغبات، بل لطلب الهداية والبصيرة من الله. في الواقع، الدعاء وسيلة لمواءمة قلوبنا وأرواحنا مع الإرادة الإلهية. عندما ندعو، نكون متصلين بمصدر الحكمة المطلقة، ونطلب منه أن يحقق رغباتنا إذا كان فيها خير لنا، وإذا لم يكن، أن يضع أمامنا طريقاً أفضل وخيراً. هذا النهج يعمق فهمنا لقدرة الله وإرادته، ويقودنا إلى نقطة ندرك فيها أن كل ما يقدره هو الأفضل. في سورة يونس، الآية 107، يقول الله تعالى: "وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو؛ وإن يردك بخير فلا راد لفضله؛ يصيب به من يشاء من عباده؛ وهو الغفور الرحيم). هذه الآية تذكرنا بأن كل خير وشر هو بمشيئته وحدها، وأن أفضل طريق هو التسليم لحكمته. أخيراً، فإن إدراك أن الهدف الأساسي من خلقنا هو عبادة الله، يساعدنا على وضع رغباتنا ضمن إطار رضا الله. الحياة الدنيا هي ممر واختبار نواجه فيه رغباتنا المادية والمعنوية. عندما نجعل رضا الله هدفنا الأساسي، فإن رغباتنا تتشكل تلقائياً بما يتماشى مع رضاه، وحينئذ يصبح التوافق بين رغباتنا وحكمته أسهل. هذا المنظور لا يؤدي فقط إلى سلام داخلي، بل يساهم أيضاً في النمو الروحي ويقودنا إلى سعادة الدنيا والآخرة. لذلك، لتوفيق رغباتنا مع الحكمة الإلهية، نحتاج إلى إيمان عميق، وتوكل كامل، وصبر جميل، وشكر دائم، ودعاء من صميم القلب. هذه هي الأعمدة التي تقوي بناء حياتنا الروحية وتربطنا بمصدر السلام والحكمة الإلهية.
يُروى أن رجلاً صالحاً تمنى الثراء لسنوات طويلة وكان يدعو الله يومياً أن يجعله غنياً. ولكن مع مرور الأيام، لم تزد ممتلكاته، وظلت حياته تسير على نفس الوتيرة البسيطة. في أحد الأيام، بينما كان يتجول في السوق، رأى لصوصاً يحيطون بتاجر ثري ويسلبون أمواله، ثم يقتلونه. عند رؤية هذا المشهد، تنهد الرجل الصالح بعمق وقال لنفسه: "الحمد والشكر لله، فلئن لم تتحقق رغبتي ولم يرزقني الثراء، فقد حفظني بحكمته من هذا الخطر العظيم. فكم من رغبة تبدو حسنة في ظاهرها، ولكن في باطنها ليست سوى بلاء ومصيبة؟ وكم من شيء نبتعد عنه، وهو في الحقيقة مصدر سلامنا وخلاصنا؟" ثم سجد شاكراً لله، لأنه بحكمته العظيمة لم يحقق رغبته في حينها، وقاده إلى طريق كان فيه الخير والسعادة الحقيقية له. وكأن الحكيم السعدي يقول بلسان الحال: "الخضوع لمشيئة الله وقضائه هو مفتاح السكينة والنجاة للإنسان."