التوازن بين السعي والتوكل يعني أن يبذل الإنسان قصارى جهده ويستغل الأسباب، ثم يفوض النتيجة لله بثقة كاملة. هذا النهج يجلب السكينة والتحرر من القلق، مع الحفاظ على روح المسؤولية والنشاط.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، يُعدّ التوازن بين «السعي» (المعروف أيضًا بـ «الكَسْب» أو «العمل») و«التوكل» على الله من أهم المفاهيم وأكثرها دقة التي تشكل حياة المؤمن. قد يظن الكثيرون أن هذين المفهومين متناقضين؛ فإما أن يسعى الإنسان ويعتمد على نفسه، أو أن يتخلى عن السعي ويتوكل على الله كليًا. ولكن الرؤية القرآنية مختلفة تمامًا؛ فهي لا ترى هذين المفهومين متعارضين، بل تراهما متكاملين وضروريين لبعضهما البعض. هذا التوازن هو أساس حياة صحية، منتجة، ومليئة بالسكينة في طريق العبودية لله. أهمية السعي والعمل في القرآن: لا يقر القرآن أبدًا الكسل أو اللامبالاة أو ترك العمل. بل على العكس تمامًا، يحث بشدة على العمل والاجتهاد واستغلال المواهب والموارد المتاحة في الأرض. تؤكد آيات عديدة على ضرورة السعي والكسب للرزق الحلال، وعمارة الأرض، والتقدم الفردي والاجتماعي. على سبيل المثال، يقول الله تعالى في سورة النجم الآية 39: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾. هذه الآية تُظهر بوضوح أنه لا نتيجة بدون سعي، وأن كل فرد سيحصد ثمرة جهده وعمله. هذا المبدأ يؤكد مسؤولية الإنسان تجاه حياته ومجتمعه. كما جاء في سورة التوبة الآية 105: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾. هذه الآية أيضًا تشجيع صريح على العمل والنشاط، وتدعو المؤمنين إلى الحيوية وتجنب الركود. العمل والسعي ليسا مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل يُعدّان عبادة وجزءًا لا يتجزأ من العبودية لله. لقد خلق الله الكون بقوانين تتطلب تدخلًا بشريًا، والإنسان هو الذي يجب أن يؤدي دوره في هذا النظام الإلهي باستخدام عقله وإرادته. السعي هو علامة على الشكر لنعم الله والاستخدام الصحيح للإمكانيات التي وضعها الله تحت تصرف البشر. حقيقة التوكل في القرآن: من ناحية أخرى، التوكل بمعناه الحقيقي ليس مجرد تفويض الأمور لله وترك السعي. التوكل يمثل قمة المعرفة والإيمان بقدرة الله المطلقة. إنه يحدث عندما يبذل الإنسان قصارى جهده ويستفيد من جميع الأسباب والإمكانيات المادية المتاحة، ثم يفوض النتيجة لله تعالى ويثق به ثقة كاملة. هذه الثقة القلبية تحرر الإنسان من القلق والتوتر بشأن المستقبل، وتمنحه السكينة والطمأنينة. يقول الله تعالى في سورة الطلاق الآية 3: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾. هذه الآية وعد إلهي صريح بأن من يتوكل على الله بصدق بعد بذل الجهد، فإن الله سيكفيه أموره. وكذلك في سورة آل عمران الآية 159: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾. هذه الآية بوضوح تضع مرحلة التوكل بعد «العزم» والقرار الحازم (الذي يتطلب الجهد والتخطيط). هذا يعني أن التوكل هو نتيجة ومنتج للسعي، وليس بديلاً عنه. التوازن بين السعي والتوكل: إذن، كيف يمكن تحقيق هذا التوازن؟ الإجابة تكمن في الفهم الصحيح والدقيق لكلا المفهومين ومكانتهما في نظام إلهي شامل. السعي هو واجب الإنسان؛ والتوكل هو نتيجة إيمانه. يجب على الإنسان أن يخطو نحو أهدافه بكل قوته، مستخدمًا عقله وتدبيره، يخطط، ويوفر الأدوات، ويزيل العقبات. هذا هو ما يعنيه «قيد البعير» كما ورد في حديث شريف عن النبي الأكرم (ص). عندما سأل أعرابي النبي هل يترك ناقته ويَتَوَكَّل، أجابه النبي: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ». هذا الحديث يُظهر قمة الحكمة الإسلامية في هذا الشأن. يجب على الإنسان أن يوفر جميع المقدمات المنطقية والشرعية، ثم بقلب مطمئن وواثق، يفوض النتيجة لله. هذا لا يعني نفي «السببية»، بل يعني الإيمان بـ «مسبب الأسباب». أي أنه على الرغم من وجود الأسباب والعوامل الظاهرية، إلا أن المؤثر الحقيقي والنهائي هو الله وحده. هذا التوازن يساعد الإنسان على أن يكون نشيطًا ومتقدمًا، وفي نفس الوقت لا يصيبه الغرور، مدركًا أن كل نجاح هو فضل من الله. كما أنه لا يصيبه اليأس والقنوط عند مواجهة الفشل والإخفاقات، لأنه يعلم أنه قد بذل قصارى جهده وفوض النتيجة إلى الحكيم المطلق. هذا المنظور يجلب سكينة عميقة، حيث يُرفع عن كاهل الإنسان عبء القلق بشأن النتائج غير المؤكدة، ولا تُرفع عنه المسؤولية، بل تُبين له المسار الصحيح لها. حياة المؤمن هي مزيج من العمل الصالح والتوكل الصادق. فهو دائمًا يبذل جهده بأفضل شكل ممكن، وفي نفس الوقت، يثق تمامًا بقوة الله وإرادته، وقلبه مطمئن بوجود الله. وهكذا يكون المؤمن ليس وحيدًا في سعيه ولا خاملًا في توكله.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجل تقي وزاهد جالسًا في بقعة منعزلة من الصحراء، ويقول: «أنا أتوكل على الله، ورزقي يأتيني من الغيب.» في أحد الأيام، رأى طائرًا مكسور الجناحين وقد سقط من عشه. جاء طائر آخر ووضع الحب في منقاره وأشبعه. ففكر الدرويش في نفسه: «هذا الطائر الضعيف أتاه رزقه بهذه السهولة، فلماذا أعمل أنا؟» وقرر أن يتوقف عن العمل ويكتفي بالتوكل. مر حكيم من جانبه ورأى حاله. فقال له: «يا درويش، من الجيد أن تتوكل على الله، ولكن ألا ترغب في أن تكون مثل الطائر الذي يجلب الطعام ويوفر للآخرين؟ أو مثل الشجرة الشامخة التي توفر الظل والثمر؟ الأفضل لك أن يكون لديك يدان وقدما وتطلب رزقك، بدلاً من أن تنتظر كذاك الطائر مكسور الجناح ليُرزقك غيرك. التوكل الحقيقي هو أن تكون كأسد قوي يسعى في طلب رزقه، لا كالثعلب الجائع الذي يجلس وينتظر صيد الآخرين. الله هو الرازق، ولكنه يرزق الساعين.» فأخذ الدرويش بنصيحة الحكيم ونهض وعمل واجتهد، وفهم أن التوكل بدون سعي ليس كمالًا، والسعي بلا توكل لا يملك كمال الطمأنينة.