كل عمل مباح يُؤدَّى بنية خالصة لوجه الله تعالى فهو عبادة. النية الصادقة وكون العمل مشروعاً هما الركنان الأساسيان لتحويل الأفعال اليومية إلى عبادة.
أيها الأخ والأخت الكريمان، هذا سؤال عميق وذو مغزى كبير ينبع من فهمنا للدين والحياة. في الإسلام، لا يقتصر مفهوم العبادة على أداء الطقوس الخاصة مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها من الشعائر. بل يتسع نطاقه ليشمل تقريباً جميع جوانب حياة الإنسان. أساساً، كل عمل صالح ومباح يقوم به الإنسان بنية خالصة ابتغاء مرضات الله، يمكن أن يتحول إلى عبادة، وهذا من أجمل تجليات دين الإسلام الحنيف. أولاً، وربما الأهم، هو أن الركيزة الأساسية لتحويل عمل عادي إلى عبادة هي "النية الخالصة". قلب العمل هو نيته. فقد قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم): "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى." إذا كانت نيتنا في أداء عمل ما، مهما بدا دنيوياً، هي رضوان الله، فإن ذلك العمل يتحول إلى عبادة. على سبيل المثال، عندما يعمل الموظف أو العامل بصدق وأمانة لكسب الرزق الحلال، بنية إعالة أسرته وعدم الحاجة إلى الآخرين، ومراعاة حقوق الناس، فإن عمله بحد ذاته عبادة. أما إذا كان همه الوحيد هو كسب المال دون مراعاة الحلال والحرام، فإن عمله لا يكتسب البعد العبادي. القرآن الكريم أيضاً يؤكد كثيراً على أهمية النية والإخلاص. ففي سورة البينة، الآية 5، نقرأ: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ." هذه الآية توضح صراحة أن محور العبادة هو الإخلاص؛ أي أن نؤدي كل عمل لله وحده ولا نشرك به شيئاً. هذا الإخلاص هو الذي يمنح أعمالنا الروح ويرفعها من مجرد حركة جسدية إلى عمل روحي وعبادي. ثانياً، يجب أن يكون العمل ضمن إطار الحلال والمباح. أي لا يجب أن يكون العمل مما حرمه الله. فمثلاً، مساعدة المظلوم عبادة، ولكن السرقة لمساعدة الفقير لا يمكن اعتبارها عبادة أبداً، لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، والله لا يرضى بالعمل الحرام. إذن، الشرط الثاني ليكون العمل عبادة هو مشروعيته في الشريعة الإسلامية. أعمال مثل رعاية الوالدين، التربية الصالحة للأبناء، مساعدة الجيران، رعاية حقوق الآخرين، طلب العلم لخدمة خلق الله، حتى الاستراحة والنوم بنية اكتساب الطاقة اللازمة لأداء العبادات والواجبات، كلها يمكن أن تتحول إلى عبادة بنية صحيحة. هذا المنظور الشامل يعلمنا أن كل لحظة في حياتنا يمكن أن تكون فرصة للتقرب إلى الله، وليس فقط الأوقات المخصصة للعبادات الخاصة. ثالثاً، إن الإيمان بأن الهدف الأساسي من خلق الإنسان هو العبودية لله وعبادته، يساعدنا على أن يكون لدينا نظرة أوسع للعبادة. ففي سورة الذاريات، الآية 56، ورد: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ." هذه الآية تبين أن الغاية القصوى والنهائية من وجودنا هي عبادة الله. عندما تستقر هذه الحقيقة في قلوبنا وعقولنا، نفهم حينها أن كل جهد لتحسين وضعنا، وأسرتنا، ومجتمعنا، بل والكون بأسره، إذا كان مصحوباً بنية إلهية، فهو يسير في طريق العبادة التي خُلقنا من أجلها. فمثلاً، المهندس الذي يسعى لبناء مبنى آمن، إذا كانت نيته خدمة خلق الله والحفاظ على أرواحهم، فإن عمله عبادة. والطبيب الذي يخدم المرضى بإخلاص، بنية الشفاء ومساعدة خلق الله، فإن عمله عبادة. حتى الابتسامة في وجه الأخ المسلم، أو إزالة الأذى عن طريق الناس، بنية نيل رضوان الله، تُعتبر عبادة. باختصار، لتحديد ما إذا كان العمل عبادة أم لا، يجب أن ننظر إلى أمرين أساسيين: أولاً، "ما هي نيتنا" من القيام بهذا العمل؟ هل قصدنا منه رضوان الله فقط أم أطماع دنيوية؟ ثانياً، "هل العمل نفسه" حلال ومشروع؟ إذا تحققت هذه الشروط، فإن أي نشاط تقريباً في الحياة اليومية يمكن أن يتحول إلى عبادة. هذا المنظور يمنح الحياة معنى أعمق، ويجعل كل لحظة مليئة بالفرص لكسب الأجر الإلهي، ويمنح الإنسان سكينة لا مثيل لها، لأنه يعلم أن وجوده كله في سبيل عبادة الله. وهذا توسع كبير في فهمنا للعلاقة مع الله، فبدلاً من قصرها على بضع ساعات محددة في اليوم، فإنها تمتد لتشمل 24 ساعة في اليوم وكل حركة وسكون في حياتنا.
يقال كان رجل صالح في مدينة، يذهب إلى السوق نهارًا ويجلس للعبادة ليلاً. وكان الناس يدعونه عابداً ويُعجبون بزهده. وذات يوم، سأله عالم: "يا هذا، أيُّهما أقرب إلى الله، الذي يسعى في السوق طالباً للرزق، أم الذي يجلس في المسجد يدعو الله؟" فتردد الرجل قليلاً ثم قال: "يا شيخ، قبل هذا كنت أظن مثلك أن من لازم المسجد فهو الأقرب. ولكن في يوم من الأيام قلت في نفسي: يا قلبي، أليس ما أفعله في السوق هو فقط لأجل الدنيا؟ وما أفعله في المسجد هو فقط لأجل الآخرة؟ فأدركت أنه لا! فإذا تعاملت في السوق بصدق وأمانة، ولم أظلم أحداً، وكانت نيتي من الكسب هو طلب الرزق الحلال لنفسي وعيالي، واعتبرت ذلك أمانة من الله، فإن ذلك أيضاً عين العبادة. وإذا جلست في المسجد بنية الرياء وإظهار نفسي، فلن تكون عبادة أبداً. إذن، كل عمل يُفعل بنية خالصة ولوجه الله، أينما كنت، فهو عبادة ويقربك إلى الله. المهم هو حال قلبك ومقصد نيتك، لا المكان أو ظاهر عملك.