كيف أكتشف ذاتي الحقيقية؟

اكتشاف الذات الحقيقية في القرآن يعني التعرف على الفطرة الإلهية، هدف الخلق، وتزكية النفس عبر التأمل والذكر والأعمال الصالحة. يؤدي هذا المسار إلى فهم أعمق للذات والخالق.

إجابة القرآن

كيف أكتشف ذاتي الحقيقية؟

قد يبدو السؤال "كيف أكتشف ذاتي الحقيقية؟" للوهلة الأولى سؤالاً نفسياً أو فلسفياً بحتاً. ولكن في مدرسة الإسلام الحية وتعاليم القرآن الكريم، يحمل اكتشاف الذات الحقيقية جذوراً إلهية وروحية عميقة. فالذات الحقيقية في المنظور القرآني ليست مجرد مجموعة من السمات الشخصية أو المواهب الفردية، بل هي تلك الفطرة الإلهية النقية التي أودعها الله في كيان كل إنسان؛ جوهرة نفيسة قد غطاها غبار الذنوب والتعلقات الدنيوية. ومسار اكتشاف هذه الذات هو في الواقع رحلة داخلية للعودة إلى أصل المرء، ومعرفة مكانته في الوجود، وإدراك الهدف السامي من الخلق. تتطلب هذه الرحلة الروحية التأمل، والبناء الذاتي، والتقرب إلى خالق الوجود لرفع الحجب بين الإنسان وحقيقته الوجودية، فتظهر أنوار الفطرة الإلهية. القرآن الكريم لا يعتبر الإنسان كائناً بلا هدف، بل ينسب إليه غاية ومقصداً سامياً. ففي سورة الذاريات، الآية 56، يقول تعالى بوضوح: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه الآية هي المفتاح الأساسي لمعرفة الهدف الوجودي، وبالتالي اكتشاف الذات الحقيقية. والعبادة في هذه الآية لا تعني مجرد أداء الشعائر والعبادات الظاهرية، بل تشمل كل فكر وعمل ونية تكون في سبيل مرضاة الله ووفقاً لأوامره. هذا المفهوم الواسع للعبادة يوجه حياة الإنسان في جميع أبعادها ويمنحها معنى. عندما يدرك الإنسان أن هدفه الأساسي هو العبودية لله والخلافة في الأرض – كما أشارت إليه سورة البقرة، الآية 30 – فإن مسار حياته يتخذ اتجاهاً إلهياً، وهنا يبدأ في اكتشاف الأبعاد الحقيقية لوجوده. يساعد هذا الفهم على توجيه المواهب والقدرات نحو تحقيق هذا الهدف الأسمى، وتحريره من الغفلة والعبثية. يوفر هذا الففاهم العميق أساسًا لبناء هوية قوية وذات معنى تتجاوز التعلقات المادية والزائلة في الدنيا. من المفاهيم المحورية الأخرى في هذا السياق هو مفهوم "الفطرة". في سورة الروم، الآية 30، نقرأ: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". الفطرة هي تلك الطبيعة النقية الميالة إلى الله، المودعة في عمق كل إنسان. وهذا الميل الفطري إلى الحق والعدل والجمال والكمال والتوحيد، هو جزء لا يتجزأ من ذاتنا الحقيقية. فذاتنا الحقيقية هي هذه الفطرة الأصيلة وميلها إلى الكمال والحقيقة والجمال والعدل. ولكن هذه الفطرة قد تُحجب على مر الحياة تحت طبقات من الغفلة والذنوب والعادات السيئة والتأثيرات البيئية السلبية والوساوس النفسية. واكتشاف الذات الحقيقية يعني إزالة هذه الطبقات والعودة إلى تلك الفطرة الأصيلة؛ إنه يعني تذكر وإحياء ما كان موجوداً في كياننا منذ البداية. السبيل العملي لاكتشاف هذه الذات الحقيقية ورعايتها هو "تزكية النفس" أو تطهير الروح. يولي القرآن الكريم هذا الموضوع أهمية خاصة. ففي سورة الشمس، الآيات 7-10، يقول تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾". تزكية النفس تعني التخلص من الرذائل الأخلاقية مثل الحسد والكبر والطمع والبخل والرياء والحقد، وتنمية الفضائل الأخلاقية مثل التواضع والقناعة والشجاعة والسخاء والصبر والشكر والمحبة والصدق والأمانة. تتطلب هذه العملية جهداً مستمراً وبناءً ذاتياً ومراقبة دقيقة ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء. فتزكية النفس لا تطهر الإنسان من الذنوب والأدران فحسب، بل وتفعل قدراته الكامنة للوصول إلى الكمال الإنساني. من الأدوات التي يشير إليها القرآن لتزكية النفس: 1. الذكر وذكر الله: دوام ذكر الله في كل الأحوال يطهر القلب ويوقظ الإنسان من الغفلة. فالصلوات المفروضة والنافلة، وتلاوة القرآن، والتسبيحات، وكل أشكال ذكر الله، هي جسر للاتصال بالحقيقة ومعرفة الذات. في سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". هذا الاطمئنان هو بحد ذاته علامة على التوافق مع الفطرة السليمة ويساعد الإنسان في مسار اكتشاف ذاته الحقيقية. 2. التفكر والتدبر: التأمل في خلق السماوات والأرض، وفي وجود الذات، وفي آيات القرآن. تمدح سورة آل عمران، الآية 191، أولئك الذين يتفكرون في الخلق. يساعد هذا التفكر العميق الإنسان على إيجاد مكانه في نظام الكون، وإدراك عظمة الخالق، وبالتالي معرفة نفسه بشكل أفضل في مقام العبودية والخلافة لله. فالمعرفة الحقيقية للذات تنبع من معرفة عميقة للوجود وخالقه، فالإنسان مرآة تعكس الصفات الإلهية. 3. محاسبة النفس: في سورة الحشر، الآية 18، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". تؤكد هذه الآية على أهمية المراجعة الذاتية ومحاسبة الأفعال. فمراجعة الأفعال والنوايا والسلوكيات اليومية بشكل منتظم، ومقارنتها بالمعايير الإلهية، يساعد الإنسان على معرفة نقاط ضعفه والسعي لإصلاحها. هذا الوعي الذاتي خطوة مهمة في مسار اكتشاف الذات الحقيقية والنمو الروحي، ويدفع الإنسان نحو تحمل المسؤولية. 4. العمل الصالح وخدمة الخلق: من خلال خدمة الآخرين وأداء الأعمال الطيبة، يصل الإنسان إلى الكمال ويكشف أبعاداً خفية في وجوده. يؤكد القرآن الكريم مراراً على أهمية العمل الصالح إلى جانب الإيمان. فمساعدة المحتاجين، الإحسان إلى الوالدين، مراعاة حقوق الآخرين، الصدق والأمانة، كلها أمثلة على العمل الصالح الذي يصقل الروح ويقرب الإنسان من فطرته النقية. لا تعود هذه الأفعال بالنفع على المجتمع فحسب، بل تنير قلب الإنسان وتجعله متناغماً مع مصدر الوجود. في الختام، إن اكتشاف الذات الحقيقية في القرآن ليس نهاية المطاف، بل رحلة مستمرة وديناميكية. هذا المسار هو مسار التقرب إلى الله. فكلما اقترب الإنسان من الله، كلما عرف نفسه أكثر وفهم أبعاد وجوده بشكل أفضل. يمنح هذا الفهم بصيرة عميقة وسلاماً وهدفاً، وتتجلى ثماره في الحياة الدنيا والآخرة. فذاتنا الحقيقية هي تلك الروح الإلهية التي نُفخت في الكيان البشري، والتي من خلال العبودية الخالصة، تصبح تجلياً لصفات الله في الأرض وتصل إلى السعادة الحقيقية. إنها عملية مستمرة من النمو والتعلم والتطهير، تؤدي في النهاية إلى الاتحاد مع الإرادة الإلهية والوصول إلى أسمى مراتب الإنسانية.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

ذات يوم، ذهب درويش عجوز كان يشكو باستمرار من اضطراب قلبه وحيرته، إلى حكيم وقال: "أيها الشيخ الفاضل، لقد سعيت لسنوات طويلة وراء السلام ومعرفة ذاتي، ولكن كلما ازددت بحثاً في الدنيا، قلَّ ما أجد. لقد تعمقت في كتب كثيرة وصادقت خيار الناس، ولكني لم أجد ذاتي الحقيقية بعد." نظر إليه الحكيم بابتسامة دافئة وقال: "يا صديقي! الذات الحقيقية كينبوع يتفجر من قلب جبل وجودك، ولكنك بدلاً من الحفر والكشف عنه، تبحث عن قطرات المطر في الصحراء. ما هو بداخلك كنز يظهر بالتفكر وتنقية القلب من الغبار. ارجع إلى داخلك، وحين ترى نفسك في مرآة أفعالك ونواياك، ستجد حقيقتك." فكر الدرويش في الأمر، ومنذ ذلك الحين، بدلاً من البحث في الخارج، انغمس في المراقبة وتزكية النفس، ولم يمض وقت طويل حتى ازدهر السلام والمعرفة الحقيقية في قلبه.

الأسئلة ذات الصلة