لتجنب التظاهر (الرياء)، أخلص نيتك لله وحده وركز على الأعمال الخفية. تذكر الموت ويوم القيامة، وطلب العون من الله بالدعاء أمور حيوية أيضًا في هذا المسار.
إن مفهوم التظاهر في الدين، المعروف في المصطلح الإسلامي بـ «الرياء»، يعد من أخطر الآفات الروحية التي يمكن أن تفسد الأعمال الصالحة للإنسان وتقلل من قيمتها المعنوية. لقد تناول القرآن الكريم هذه الظاهرة بدقة وعمق، وقدم حلولاً للابتعاد عنها. الرياء يعني أداء العمل بنية جذب انتباه الآخرين وطلب مدحهم، بدلاً من أن يكون القصد الوحيد هو طلب رضا الله تعالى وابتغاء وجهه الكريم. هذا التوجه لا يُعتبر مانعًا خطيرًا للنمو والتكامل الروحي في الإسلام فحسب، بل في أي مسار روحي آخر. للتحرر من فخ التظاهر، يتطلب الأمر تهذيبًا عميقًا للنفس واتباع المبادئ القرآنية التي سيتم مناقشتها بالتفصيل فيما يلي: 1. إخلاص النية (الإخلاص): أساس كل عمل صالح الخطوة الأهم والأكثر حيوية للابتعاد عن التظاهر هي إخلاص النية. كل عمل يقوم به الإنسان، سواء كان من العبادات الفردية كالصلاة والصيام، أو الأعمال الاجتماعية كالصدقة ومساعدة الآخرين، يجب أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى وحده. يؤكد القرآن الكريم في آيات عديدة على أهمية الإخلاص. على سبيل المثال، في سورة البينة الآية 5، يقول الله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (وما أُمِروا إلا أن يعبدوا الله مُخلِصين له الدينَ حُنَفاء، ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ؛ وذلك دين القَيِّمة). توضح هذه الآية صراحة أن محور التدين هو الإخلاص في العبادة. فالنية الخالصة هي روح العمل؛ وبدونها، يُعتبر العمل، مهما كان عظيمًا أو ظاهرًا، بلا قيمة عند الرب. لتحقيق هذا الإخلاص، يجب على الإنسان أن يراجع نيته باستمرار وفي كل لحظة، قبل بدء أي عمل وأثناءه، وأن يسأل نفسه: «لمن أقوم بهذا العمل؟ هل هدفي ثناء الناس أم محبة ورضا الله؟» هذا السؤال والجواب الصادق، ينقي القلب تدريجيًا ويطهِّر النية من أي شائبة. يجب أن تستمر عملية تنقية النية هذه في جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان، وليس فقط في العبادات، حتى تتشرب حياته بالروح الإلهية. 2. فهم عمق أضرار الرياء وبركات الإخلاص: تحذيرات قرآنية ووعود إلهية إن الفهم الدقيق والعميق للمضار والعواقب الوخيمة للرياء، وكذلك إدراك البركات والمكافآت التي لا تعد ولا تحصى للإخلاص، يزيد من دافع الإنسان لمكافحة التظاهر. يوبخ القرآن الكريم المرائين بشدة. على سبيل المثال، في سورة الماعون من الآيات 4 إلى 6 نقرأ: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ» (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون). هذه الآيات تحذير جدي يشير إلى أن حتى عبادة مهمة كالصلاة، إذا اختلطت بالرياء، لا تفقد قيمتها فحسب، بل تصبح سببًا للهلاك والعذاب. تذكرنا هذه الآيات بأن الله لا يحتاج إلى أعمالنا الظاهرية، بل ينظر إلى قلوبنا ونياتنا. ومن ناحية أخرى، يشير القرآن إلى المكافآت العظيمة التي تُمنح للأعمال الخالصة؛ الأعمال التي تمت دون أي توقع من المخلوقين، ومحضًا للخالق. على سبيل المثال، في سورة البقرة الآية 264 يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر). تُظهر هذه الآية كيف يمكن للرياء أن يبطل الأعمال الخيرية. إن فهم هذه المفاهيم يجعل الإنسان يدرك أن العزة والاحترام الحقيقيين لا يكمنان في عيون الناس، بل عند الله. يساعد هذا الفهم العميق الإنسان على الابتعاد عن جاذبية الدنيا الزائلة والتوجه نحو المكافآت الأبدية ورضا الله. 3. ممارسة السرية في الأعمال الصالحة (قدر الإمكان): حاجز ضد وسوسة الرياء من الحلول العملية للابتعاد عن الرياء، أداء بعض العبادات والأعمال الخيرية بشكل سري وبعيدًا عن أنظار الناس. هذا لا يعني ترك الأعمال الخيرية العامة أو الواجبات التي يجب أداؤها علانية (مثل صلاة الجماعة أو الزكاة الواجبة)، بل فيما يتعلق بالأعمال المستحبة والنوافل، فإن أداءها بشكل سري يساعد كثيرًا في الحفاظ على الإخلاص. عندما يتم عمل ما بعيدًا عن الأنظار وفقط لله، تقل فرصة دخول الرياء ووساوس النفس. هذا العمل يمنح الإنسان راحة البال بأن مشاهده الوحيد هو الله، وأن رضاه وحده هو الهدف. هذا النهج فعال بشكل خاص في الصدقات والأعمال الخيرية التي يمكن أداؤها سراً، مما يضمن أن يكون أجرها أكثر نقاءً وكمالاً. هذا العمل لا يزيل الرياء فحسب، بل ينشئ علاقة سرية وعميقة بين العبد وربه، مليئة بالبركة والسكينة. 4. المراقبة والمحاسبة الذاتية: التقييم المستمر للذات إن الابتعاد عن التظاهر هو جهاد دائم ضد النفس ويتطلب مراقبة ومحاسبة مستمرة. يجب على الإنسان أن يكون يقظًا باستمرار لدوافعه الداخلية، وأن يقوم بمراجعة وتقييم نيته بعد كل عمل. هذا يعني أن نراجع أعمالنا اليومية كل ليلة قبل النوم، ونرى ما إذا كانت نيتنا خالصة أم أنها تلوثت بشائبة من الرياء. إذا حدثت زلة، فيجب التوبة على الفور، والاستغفار، والسعي لتصحيح النية في المستقبل. هذه الممارسة المستمرة للتقييم الذاتي تجعل الإنسان أكثر وعيًا بوساوس الشيطان والنفس الأمارة التي تدعو إلى الرياء. المراقبة، أي حضور القلب في كل لحظة من العمل، والمحاسبة، أي مراجعة الأعمال السابقة، هما أداتان قويتان في يد المؤمن لتحقيق الإخلاص والابتعاد عن التظاهر. تساعد هذه العملية الإنسان على معرفة نقاط ضعفه واتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجتها. 5. تذكر الموت ويوم القيامة: تحديد الأهداف للخلود إن التذكير الدائم بالحقيقة التي مفادها أن يومًا سيأتي تُعرض فيه جميع أعمال الإنسان علنًا ودون أي ستر أمام الله تعالى، ولن يبقى شيء مخفيًا، هو أحد أقوى العوامل المانعة للرياء. ففي ذلك اليوم، لن تنفع إلا الأعمال الخالصة والنوايا النقية للخلاص. عندما يدرك الإنسان أن جميع أعماله مسجلة ومدونة وسيتم محاسبته عليها بدقة، فإنه لا يسعى لجذب انتباه الناس، بل يطلب فقط رضا الخالق وثوابه. هذا المنظور القرآني بأن الدنيا فانية والآخرة باقية ودائمة، يدفع الإنسان نحو أعمال لها قيمة أبدية وليست قيمًا دنيوية زائلة وفانية. هذا النظر العميق إلى المعاد يحرر الإنسان من أسر نظرات الناس ويوجهه نحو العبادة الخالصة. 6. اللجوء إلى الله بالدعاء: طلب العون من مصدر الطهر الرياء مرض قلبي، والله وحده هو الشافي للقلوب، وهو القادر على علاجه. من أهم طرق مكافحة الرياء هو اللجوء إلى الله والدعاء والتوسل إليه. الأدعية المروية عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في طلب الإخلاص والنجاة من الرياء فعالة جدًا ومفيدة. يجب أن نطلب بتواضع من الله أن يطهر نيتنا ويحمينا من شر التظاهر والرياء. هذا الاستعانة بالله لا تساعد الإنسان في الابتعاد عن الرياء فحسب، بل تقوي أيضًا العلاقة الروحية به وتعمق الإيمان والتوكل. الدعاء هو جسر يربط الإنسان بمصدر النقاء والإخلاص، وينقي القلب من أي شوائب. 7. اختيار الرفقاء والبيئة الصالحة: تأثير البيئة على الإخلاص تلعب البيئة والأصحاب دورًا حيويًا في تشكيل شخصية الإنسان ودوافعه. إن الابتعاد عن المجالس والأفراد الذين يعطون أهمية للمظاهر والتظاهر، والسعي لمصاحبة من يتجلى الإخلاص والتقوى في أقوالهم وأفعالهم، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي عميق في الابتعاد عن الرياء. يوصي القرآن الكريم المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين والصالحين. توفر هذه الصحبة نماذج إيجابية في حياة الإنسان وتوجهه نحو الإخلاص والتواضع والعبودية الحقيقية لله. البيئة الصالحة، مثل الهواء النقي للرئتين؛ تساعد قلب الإنسان وروحه على البقاء بعيدًا عن شوائب الرياء والسير على طريق العبادة الصحيح. يؤثر الأفراد المخلصون، بسلوكهم وكلامهم، علينا لا شعوريًا ويوجهوننا نحو أعمال خالصة وبعيدة عن التباهي والتظاهر. في الختام، إن الابتعاد عن التظاهر هو مسار روحي طويل ويتطلب تهذيبًا مستمرًا للنفس. يستمر هذا النضال مع النفس باستمرار وحتى آخر نفس، ولا ينجح فيه إلا من يذكر الله دائمًا ولا يطلب شيئًا سوى رضاه. باتباع هذه المبادئ القرآنية والخطوات العملية، يمكن للمرء أن يمتلك قلبًا مليئًا بالإخلاص ويؤدي أعمالاً لا تُقبل إلا في حضرة الله. هذا المسار لا يؤدي فقط إلى السلام الداخلي ورضا الله، بل يساعد الإنسان على عيش حياة ذات معنى وهدف حقيقي، وتحريره من جاذبية المظاهر الدنيوية الخادعة. هذا السعي الدؤوب للإخلاص سيضمن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
في يوم من الأيام، كان درويش وقور وأنيق يجلس في مجلس. فجاءه درويش آخر، ربما لم يكن مظهره مرتبًا تمامًا ولكن باطنه كان نقيًا، وقال له بلطف: «يا شيخ! ما الفائدة من أن ترتدي ثوب الدراويش وتحافظ على مظهر حسن، وقلبك متعلق بالدنيا وشهواتها؟ إن هذا اللباس حرام عليك إن لم تكن نيتك خالصة.» الدرويش، الذي بدا وكأنه تأثر بهذا الكلام، رد بابتسامة: «صدقت يا صديقي! فلتخلع أنت أيضًا ثوب الرياء من قلبك، ولتصفِّ باطنك مع الله، وعندها سنرى أينا سار في طريق الإخلاص الحقيقي.» هذه الحكاية الجميلة من بستان سعدي، تذكرنا بأن القيمة الحقيقية لأعمالنا ليست في ظاهرها وما يراه الناس، بل في إخلاص النية وما يعلمه الله وحده. المهم هو أن يكون قلبنا مع الله، وليس مجرد اللباس الذي نرتديه أو العمل الذي نظهره.