لتمييز صوتك الداخلي عن الوسوسة، اعتمد على التقوى وذكر الله ومطابقة ذلك لتعاليم القرآن. صوت الفطرة يجلب الطمأنينة ويدعو للخير، بينما الوسوسة تدعو للمعصية وتتبعها القلق.
إن تمييز الصوت الداخلي الحقيقي الذي ينبع من الفطرة النقية والإلهامات الإلهية عن وساوس الشيطان أو رغبات النفس الأمارة بالسوء، يُعد أحد أهم التحديات الأساسية في مسار النمو الروحي وتزكية النفس. لقد تناول القرآن الكريم هذا الموضوع بدقة بالغة، وقدم حلولاً عملية لتمييز الحق من الباطل الداخلي. لفهم هذا الاختلاف، يجب علينا أولاً أن نتعرف على طبيعة كل من هذه الأصوات، ثم نطبق الأدوات القرآنية لتمييزها. طبيعة الصوت الداخلي (الفطرة والإلهام الإلهي): الصوت الداخلي الحقيقي، والذي يُشار إليه غالبًا بالوجدان أو الفطرة، هو الميل الفطري للإنسان نحو الخير، العدل، الصدق، والفضائل الأخلاقية. هذا الصوت متجذر بعمق في وجود كل إنسان، وحتى في أولئك الذين انحرفوا ظاهريًا عن طريق الحق، فإنه لا ينطفئ تمامًا. يشير القرآن الكريم إلى هذه الفطرة في آيات عديدة. وعادة ما يكون هذا "الصوت" مصحوبًا بالهدوء، الاطمئنان القلبي، الرضا الداخلي، والشعور بالقرب من الله. عندما يدعوك هذا الصوت إلى فعل ما، فإن نتيجته غالبًا ما تكون خيرًا في الدنيا والآخرة، وراحة البال، ونموًا روحيًا. هذه الإلهامات يمكن أن تكون من الله، كما نقرأ في سورة الشمس، الآية 8: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا". هذه الآية توضح بجلاء أن الله يُلهم النفس طريق الخير والشر، وهذا الإلهام هو الصوت الداخلي الموجه الذي يقود الإنسان نحو النقاء والتقوى. طبيعة الوسوسة (الشيطان والنفس الأمارة): في المقابل، الوسوسة هي نداء خادع يجذب الإنسان نحو الخطيئة، الطغيان، الأنانية، الطمع، والأفعال التي تضره في النهاية. المصادر الرئيسية للوسوسة شيئان: الشيطان والنفس الأمارة بالسوء (النفس التي تأمر بالشر). لقد حذر القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا من العداوة الواضحة للشيطان وجهوده الحثيثة لإضلال البشر. الشيطان لا يدعو الإنسان إلى الشر فحسب، بل يزين له الخطيئة في عينيه ويجعله غافلاً عن عواقب أفعاله. في سورة الناس، يعلمنا الله أن نستعيذ من وسوسة الخناس الذي يوسوس في صدور الناس. عادة ما تكون هذه الوساوس مصحوبة بالقلق، الشك، الذنب، وخز الضمير بعد الفعل، وفي النهاية الندم. تبدو الوسوسة في البداية حلوة وجذابة، لكن ثمرتها مُرة وضارة. والنفس الأمارة هي جزء آخر من وجود الإنسان يدعوه إلى الشهوات، الغضب، العُجب، والغرور، ما لم تخضع لسيطرة العقل والشرع. في سورة يوسف، الآية 53، نقرأ: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي". هذه الآية تبين بوضوح ميل النفس إلى الشر. الأساليب القرآنية للتمييز: يقدم القرآن الكريم حلولاً عملية وعميقة لتمييز هذين النوعين من الأصوات، تركز أساسًا على تقوية الصلة بالله، تزكية النفس، واكتساب البصيرة الروحية: 1. التقوى (البصيرة والتمييز): أحد أهم المفاتيح لتمييز الحق من الباطل هو التقوى. التقوى تعني ضبط النفس والامتناع عن المعاصي خشية من الله. يقول القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" (سورة الأنفال، الآية 29). هذه الآية توضح بجلاء أن التقوى سبب للبصيرة والتمييز، وتمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الإلهامات الرحمانية والوساوس الشيطانية. القلب الذي يمتلئ بالتقوى يصبح مرآة صافية تعكس الحقائق دون تشويه. 2. الذكر (ذكر الله): الذكر الدائم لله هو أقوى سد في وجه الوساوس الشيطانية. عندما يكون الإنسان ذاكرًا لله، لا يستطيع الشيطان السيطرة عليه. يقول القرآن: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (سورة الرعد، الآية 28). تبدأ الوسوسة بالغفلة والنسيان لله، وتزول بذكر الله. كلما شعرت في قلبك بالحيرة بين فكرة صالحة ووسوسة سيئة، ففرّ إلى ذكر الله؛ إذا كانت الفكرة من الشيطان، فسوف تزول، وإذا كانت من الله، فسوف تقوى وتتبعها طمأنينة القلب. الاستعاذة (قول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) هي أيضًا نوع من الذكر واللجوء إلى الله، وهي فعالة جدًا، كما ورد في سورة الأعراف، الآية 200: "وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". 3. الرجوع إلى القرآن والسنة: كلما جاءك نداء داخلي، فقارنه بمعيار آيات القرآن والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الأئمة المعصومين (عليهم السلام). هل هذا النداء يتوافق مع تعاليم الإسلام أم يتعارض معها؟ هل يدعو إلى العدل، الإحسان، الصدق، والتوحيد أم إلى الظلم، الأنانية، الكذب، والشرك؟ القرآن هو المعيار النهائي للحق والباطل. الإلهام الرحماني لا يتعارض أبدًا مع الآيات الإلهية، بينما الوسوسة غالبًا ما تدعو إلى ما يخالف الشريعة. 4. التفكير في العواقب والنتائج: تدعو الوسوسة عادة إلى الملذات الزائلة والدنيوية، لكن نتيجتها على المدى الطويل هي الفساد والندم. أما الصوت الداخلي الحقيقي، فعلى الرغم من أنه قد يكون مصحوبًا بمشقة في البداية (مثل الدعوة إلى الصبر، جهاد النفس، أو التضحية)، إلا أن نتيجته النهائية هي السعادة والرضا الإلهي. فكر في تأثير القيام بهذا العمل أو عدمه على روحك ودينك وآخرتك. 5. الاستشارة مع أهل العقل والدين: في أوقات الشك والتردد، يمكن أن تكون استشارة الأشخاص التقيين، العلماء، وذوي الخبرة الذين يتمتعون بالبصيرة مفيدة جدًا. على الرغم من أن هذا الحل ليس مباشرًا من الداخل، إلا أنه وسيلة خارجية للمساعدة في التمييز الداخلي، ويتوافق مع توصية القرآن بالتشاور. 6. الشعور القلبي (الاطمئنان أو القلق): الإلهامات الرحمانية ونداء الفطرة عادة ما تكون مصحوبة بالهدوء، الاطمئنان، وانشراح الصدر. يشعر الفرد بأنه يسير على الطريق الصحيح، ويهدأ قلبه. أما الوساوس الشيطانية والنفسية، فعلى الرغم من أنها قد تكون مغرية في البداية، إلا أنها ستكون مصحوبة في النهاية بالقلق، التوتر، الشك، و وخز الضمير. القلب الذي يذكر الله يكون مطمئنًا، ولا مكان للوساوس فيه. (راجع نفس الآية 28 من سورة الرعد). في الختام، إن عملية التمييز هذه هي مهارة تقوى بالتدريب المستمر، تزكية النفس، اليقظة، واللجوء إلى الله. كلما اقترب الإنسان من الله وازدادت تقواه، زادت قدرته على التمييز، وقلَّ تعرضه للخداع بالوساوس.
في قديم الزمان، كان هناك أخوان، أحدهما معروف بحكمته والآخر بتهوره. ذات يوم، كانا يسيران في طريق متعرج ووصلا إلى مفترق طرق. أراد الأخ المتهور على الفور أن يسلك الطريق الذي بدا أسهل وأقصر، لأن هوى نفسه كان يدعوه إلى الراحة والعجلة. لكن الأخ الحكيم توقف لحظة، استمع إلى قلبه وفكر: "ألا يقود هذا اليسر إلى سراب؟ ألا يوجد خطر خفي في هذا الطريق السهل؟" وثقًا بصوت فطرته وعقله أكثر، ومتوكلاً على الله، اختار الطريق الأصعب ولكن الأكثر أمانًا. أما الأخ المتهور، فقد وقع في براثن اللصوص والمشاكل العديدة في الطريق السهل، بينما وصل الأخ الحكيم إلى وجهته سالمًا، شاكرًا لبصيرته وصبره. تعلمنا هذه القصة أن التمييز بين الصوت الداخلي الحقيقي والوسوسة يتطلب التفكير والتقوى والتوكل على الله، حتى نكون في مأمن من خداع النفس والشيطان.