للارتقاء بالإيمان من التقليد إلى اليقين، يجب البدء بالتدبر العميق لآيات القرآن وعلامات الله في الخلق. ثم، من خلال اكتساب المعرفة الحقيقية، والعمل بالتعاليم الدينية، وتزكية النفس، يقوى الإيمان القلبي الداخلي، لنصل إلى السكينة والطمأنينة الحقيقية.
إن الرحلة من الإيمان التقليدي إلى الإيمان اليقيني هي إحدى أعمق وأهم مراحل النمو الروحي في المنظور القرآني. يدعو القرآن الكريم الإنسان باستمرار إلى التفكر والتدبر والتعقل، ويحذر من الاتباع الأعمى غير المستند إلى دليل. الإيمان التقليدي هو قبول المعتقدات والمبادئ الدينية بناءً على ما ورثناه من الآباء أو المجتمع أو التقاليد، دون تمحيص أو بحث شخصي. ورغم أن هذه المرحلة يمكن أن تكون نقطة انطلاق للكثيرين، وتمنع الوقوع في الشك والإلحاد في بداية الطريق، إلا أنها لا يمكن أن تكون قاعدة صلبة لمواجهة التحديات والشبهات والوساوس. الإيمان التقليدي معرض لاهتزازات الشك لأنه لا يرتكز على جذور ثابتة في قلب وعقل الشخص، بل يعتمد على ركائز خارجية ومكتسبة. أما اليقين فهو حالة من الطمأنينة القلبية والمعرفة العميقة التي لا يدخلها شك. يشير القرآن الكريم إلى مراتب مختلفة من اليقين: "علم اليقين" (المعرفة القطعية)، و"عين اليقين" (المشاهدة والتجربة القطعية)، و"حق اليقين" (إدراك الحقيقة ولمسها بكل الوجود). الهدف من تنمية الإيمان هو الوصول إلى هذه المراتب من اليقين، التي لا تقوي معتقدات الفرد فحسب، بل تؤثر على جميع جوانب حياته وتوصله إلى السكينة والطمأنينة الحقيقية. تتطلب هذه الرحلة جهداً فكرياً وروحياً، وسنتناولها بناءً على التعاليم القرآنية. طرق الارتقاء بالإيمان من التقليد إلى اليقين في ضوء القرآن: 1. التدبر في القرآن الكريم (التفكر العميق في الآيات الإلهية): القرآن ليس مجرد كتاب للتلاوة، بل هو كتاب للتدبر والتعقل. يدعو الله تعالى الإنسان مراراً في القرآن إلى تدبر آياته. فالتفكر في المعاني والأهداف والحكم الكامنة في الآيات يهيئ بيئة مناسبة لتكوين الإيمان اليقيني. عندما يتعمق الفرد في الرسائل الإلهية بدقة، يدرك انسجام كلام الله وعظمته وحقانيته، وهذا الإدراك يرتقي بإيمانه من مستوى السماع إلى مستوى المعرفة القلبية. على سبيل المثال، الآيات المتعلقة بالتوحيد والمعاد والصفات الإلهية وقصص الأنبياء والأحكام، كل منها تفتح نافذة نحو اليقين إذا نُظِر إليها بعين البصيرة. هذا التدبر يزيل الشكوك وينير القلب بنور المعرفة. 2. التفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية (علامات الله في الكون وداخل الإنسان نفسه): يدعو القرآن الكريم الإنسان مراراً إلى النظر في الكون ووجوده الخاص لإدراك علامات القدرة والحكمة والعلم الإلهي. فمشاهدة النظام المذهل في السماوات والأرض والنجوم ودورة الحياة وتنوع الكائنات وعجائب خلق الإنسان، كلها تدل على وجود خالق حكيم وقادر. عندما ينظر الإنسان إلى هذه العلامات بعين الاعتبار ويدرك عظمة الخلق، ينتقل إيمانه من مجرد القبول إلى ما يقرب من المشاهدة والشهود. الآيات القرآنية في هذا الصدد تعبر بوضوح عن الدعوة إلى التفكر والتعقل: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت: 53). 3. سلوك المسار العلمي واكتساب المعرفة الحقيقية: الإيمان اليقيني لا يقوم على الجهل واللامعرفة، بل على العلم والمعرفة. يولي القرآن الكريم قيمة عالية للعلم ويذم الجهل. فالبحث عن المعرفة الحقيقية في مختلف المجالات، من العلوم الطبيعية إلى العلوم الدينية، يمكن أن يرفع الستائر عن الحقائق ويوجه الإنسان إلى اليقين. العلم نور، والجهل ظلام. كلما تعمقت معرفة الإنسان، زادت قدرته على التمييز بين الحق والباطل، وقلّ وقوعه فريسة للأوهام والخرافات. يمكن تحقيق هذا المسار العلمي من خلال دراسة الكتب الموثوقة، والسؤال من العلماء والمتخصصين، والبحث والدراسة. هذا ما يطلبه منا القرآن: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل: 43). 4. العمل بتعاليم الدين والتجربة العملية: الإيمان ليس مجرد اعتقاد ذهني، بل هو أسلوب حياة. فالتطبيق العملي لأوامر الله، بما في ذلك الصلاة والصيام والصدقة والصدق والعدل والإحسان، يرسخ الإيمان في وجود الإنسان ويحوله من حالة نظرية إلى حالة عملية. عندما يلاحظ الإنسان النتائج الإيجابية للعمل بهذه التعاليم في حياته ومجتمعه، يتعزز إيمانه ويقترب من اليقين. كثير من حقائق الدين لا يمكن فهمها إلا من خلال التجربة العملية والحياة الإيمانية. على سبيل المثال، من ذاق حلاوة الصلاة بقلب خاشع، لا يحتاج بعد ذلك إلى دليل لإثبات أهمية الصلاة، بل أدركها بعين اليقين. هذه التجربة العملية تحول الإيمان من التقليد المحض إلى اليقين. 5. تزكية النفس والابتعاد عن الذنوب: الذنوب والتعلقات الدنيوية كالستائر التي تعمي بصيرة القلب وتمنع إدراك الحقائق. يؤكد القرآن الكريم بشدة على تزكية النفس وتطهير الروح من الرذائل الأخلاقية. كلما أصبح قلب الإنسان أنقى وأكثر نورانية، زادت قدرته على تلقي الحقائق وإدراك الآيات الإلهية. الابتعاد عن المعاصي، والتوبة، والاستغفار، والذكر الإلهي، يزيل الحجب ويمهد الطريق لإشراق نور اليقين في القلب. فالنفس النقية مرآة شفافة تعكس الحقائق دون تشويه وتؤدي إلى اليقين الداخلي. 6. التوكل واللجوء إلى الله: في هذه الرحلة، يعتبر التوكل على الله والدعاء والتضرع أمراً بالغ الأهمية. فالله تعالى هو المرشد الحقيقي للبشر، ومن خلال الهدايات الغيبية والداخلية، يدفع الإنسان نحو اليقين. فمن يطلب الهداية وزيادة الإيمان بإخلاص من الله، سيستفيد حتماً من رحمته وفضله. ودعاء "اهدنا الصراط المستقيم" في كل صلاة، يدل بذاته على حاجة الإنسان الدائمة للهداية الإلهية للوصول إلى أعلى مراتب اليقين. في الختام، إن مسار الوصول من التقليد إلى اليقين هو مسار تدريجي وديناميكي، يتطلب جهداً مستمراً، وبصيرة، وصبراً. فكل خطوة في هذا الطريق تعمق الإيمان وتقويه، حتى لا تتزعزع الفرد الشبهات الخارجية، بل ينار من الداخل بنور إلهي ويبلغ السكينة الحقيقية. القرآن الكريم هو مصباح الطريق الذي يرشدنا، من خلال التدبر والعمل بتعاليمه، إلى نبع اليقين.
يُروى أنه في زمن السعدي، كان يعيش في شيراز شابٌ عالمٌ أمضى حياته كلها في حفظ الكتب ونقل الأقوال عن العلماء الكبار. كلما تحدث إليه أحد، كان يأتي باقتباسات لا حصر لها من ذاكرته القوية، وكان الجميع يثني عليه. في أحد الأيام، رآه شيخ حكيم وعابد، قليل الكلام، وغارق في التأمل، فابتسم. سأل الشاب بغرور: "يا أيها الشيخ الفاضل، ألا ترى علمي؟" فقال الشيخ: "العلم حسن، ولكن هل ما حفظته قد استقر في قلبك ونوّر روحك أيضاً؟" تعجب الشاب، وتابع الشيخ: "هناك فرق بين معرفة حكاية النار وبين الاحتراق بها. اليقين هو طعم ذلك الاحتراق، وليس مجرد معرفة حكايته." فكر الشاب ملياً في هذا القول. ومنذ ذلك اليوم، ترك الكتب جانباً وبدأ في التفكر في الخلق والتدبر في الآيات الإلهية. وقف في خلوته يصلي وتذوق حلاوة المناجاة. شيئاً فشيئاً، ما كان مجرد معلومات في ذهنه ترسخ في قلبه، ولم يعد بحاجة إلى الاقتباس لإثبات الحقائق؛ بل شعر بها بنفسه. وهكذا، ارتقى من التقليد إلى اليقين وتذوق طعم السكينة الحقيقية.