لإيجاد الشغف للقرآن، اعتبره ليس مجرد واجب بل كلاماً إلهياً حياً وهادياً؛ أقم صلة عميقة بتدبر آياته وإدراك شفاعته ورحمته.
إن تنمية الشغف العميق والدائم لتلاوة القرآن الكريم وتدبره هو طموح نبيل، وسبله تكمن في كلام الله تعالى نفسه وفي سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). لا يتحقق هذا الشغف بمجرد القراءة السطحية لآياته، بل يتطلب مقاربة معرفية، تدبرية، وقلبية. القرآن ليس مجرد كتاب؛ إنه كلام الله الحي الموجه، وهو مصدر النور والشفاء والرحمة والعبرة للبشرية جمعاء. لتغذية هذا الشغف، يجب أن يتحول تصورنا للقرآن من مجرد نص إلى ينبوع هداية إلهية وصلة مباشرة بخالق الكون. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 2: «ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ»؛ هذا الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. فهم هذه الحقيقة العميقة بأن القرآن نزل لهدايتنا وتقديم الحلول لجميع تحديات حياتنا هو الخطوة الأولى في توليد الشغف. عندما ندرك أن هذا الخطاب الإلهي يلبي احتياجاتنا الروحية والفكرية، فإننا نتوجه إليه، ليس من باب الواجب، بل من باب الحاجة والعطش. الخطوة الحاسمة التالية هي 'التدبر' – التأمل والتفكر في آياته. في سورة محمد، الآية 24، يسأل الله: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»؛ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ تشير هذه الآية بوضوح إلى أن مجرد تلاوة الكلمات دون تفكير وتأمل لن يسمح لنا بالوصول إلى عمق معانيها. التدبر يعني السعي لفهم مقصود الآيات، وربطها بحياتنا اليومية، وإيجاد الحلول للمشاكل الشخصية والاجتماعية في ضوء القرآن. لهذا الغرض، يمكن الاستعانة بالترجمات والتفاسير الموثوقة، والمشاركة في جلسات دراسة القرآن وتدبره، وطلب المشورة من الأفراد ذوي المعرفة في هذا المجال. عندما نقرأ آية ونفهم معناها العميق، نشعر وكأن الله يتحدث إلينا مباشرة. هذه الصلة الحية والديناميكية تخلق حماسًا لا يوصف في القلب، وتشجعنا على القراءة أكثر والتعمق. علاوة على ذلك، فإن فهم أن القرآن شفاء لأمراض الروح والقلب يوفر دافعًا كبيرًا للتقرب منه. في سورة يونس، الآية 57، يقول الله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ»؛ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. وبالمثل، في سورة الإسراء، الآية 82، يقول: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا»؛ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. عندما يواجه الإنسان قلقًا أو همًا أو شكًا أو أي مرض روحي في حياته، يمكن أن يكون القرآن ملجأه وعلاجه. إن التجربة الشخصية لهذا الشفاء والسكينة تضاعف شغف المرء به تدريجيًا. فبدلاً من مجرد قراءة القرآن للمكافأة، يجب أن نعتبره الوصفة الإلهية الشافية لأرواحنا. لتعزيز هذا الشغف، فإن وضع روتين منتظم والالتزام به أمر بالغ الأهمية. حتى لو كان هذا الروتين صغيرًا جدًا في البداية، على سبيل المثال، عشر دقائق يوميًا أو قراءة بضع آيات، فالمهم هو استمراريته. تتحول العادة بمرور الوقت إلى اهتمام ثم إلى حب. علاوة على ذلك، فإن تهيئة بيئة مناسبة للتلاوة، مثل تخصيص وقت ومكان محدد ونظيف، والوضوء، والقراءة بهدوء وخشوع، يمكن أن يعزز تجربتنا مع القرآن. الاستماع إلى تلاوات جميلة وعذبة من قبل القراء المتميزين يمكن أن يهيئ الأذن والقلب بشكل أفضل لاستقبال الرسائل الإلهية ويوقد الشغف. يمكن أن تكون هذه الاستماعات مقدمة للتقليد ومن ثم الفهم الأعمق للآيات. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن الدعاء والتضرع إلى الله لطلب التوفيق والشغف بالقرآن فعال للغاية. يجب أن نطلب من الله أن يرفع الحجب عن قلوبنا ويذيقنا حلاوة كلامه. يمكن أن يكون التواصل مع الأشخاص الذين هم أهل القرآن ويستمتعون بصحبتهم مصدر إلهام. المشاركة في حلقات قراءة القرآن والتفسير تخلق مساحة جماعية لتبادل الأفكار والتعلم، مما يمكن أن يسهم في زيادة الحماس والحيوية في رحلة الصحبة مع القرآن. عندما نرى كيف يتأثر الآخرون بالقرآن وكيف تتغير حياتهم بسببه، نتشجع نحن أيضًا على متابعة هذا المسار بجدية أكبر. في النهاية، الشغف بالقرآن هو هدية إلهية، تنبت في قلوبنا من خلال الجهد والمعرفة والتدبر والعمل بتعاليمه، وتتحول إلى شجرة مثمرة ثمارها السكينة والهداية والسعادة في الدنيا والآخرة.
يروى أنه في الأزمنة القديمة، كان هناك شاب يدعى «بيدار دل» (القلب المتيقظ) كان يسعى دائمًا لتزيين نفسه بالفضائل الحميدة. كان يخط القرآن ويتلوه بكل احترام، لكنه شعر أحيانًا في قلبه أنه يفتقر إلى الشغف الملتهب به، وأنه يمر على الآيات من باب الواجب فقط. ذات يوم، ذهب إلى شيخ حكيم وشرح له حاله وسأله: «يا حكيم، كيف لي أن أذوق حلاوة كلام الله في روحي وأرتوي من تلاوته؟» ابتسم الشيخ الحكيم وقال: «يا بيدار دل، هل رأيت عسلاً في إناء يوماً ما، وأنت تنظر إلى الإناء فقط وتغفل عن حلاوته؟ القرآن مثل ذلك العسل. طالما أنك تنظر فقط إلى ظاهره وكلماته، ولا تتدبر معانيه العميقة ورسائله، فلن تذوق حلاوته. اقرأ كل آية واسأل نفسك: 'ماذا يريد مني كلام الله هذا؟ كيف تلقي هذه الآية الضوء على حياتي؟'» انشرح قلب بيدار دل بكلام الشيخ البصير. بدأ يقرأ بتدبر، وكلما وجد معنى جديداً في آية، كان ينبوع من الحكمة يتدفق في قلبه. شيئاً فشيئاً، لم تعد قراءة القرآن مجرد واجب بالنسبة له، بل أصبحت متعة لا تضاهى، كشرب الماء العذب في صحراء قاحلة، وهكذا، وجد الشوق والشغف الحقيقي في روحه.