العثور على الذات الحقيقية في الإسلام هو العودة إلى الفطرة الإلهية والهدف الأساسي من الخلق، وهو عبادة الله. يتحقق ذلك بتزكية النفس، وذكر الله، وطلب العلم، مما يؤدي إلى طمأنينة القلب وحياة هادفة.
مفهوم "العثور على الذات الحقيقية" في الإطار الإسلامي العميق، كما وضحه القرآن الكريم والتعاليم النبوية الشريفة، يقدم منظورًا فريدًا وروحانيًا عميقًا، يختلف عن العديد من المفاهيم العلمانية المعاصرة للاكتشاف الذاتي. إنه ليس مجرد استبطان أو تحليل نفسي معزول، بل هو رحلة معقدة للتعرف على ارتباط الفرد المتأصل بالذات الإلهية، وفهم غايته النهائية من الوجود، والمواءمة الواعية لحياته مع المبادئ الثابتة للهداية الإلهية. يكشف القرآن أن جوهرنا الأصيل، ذاتنا الحقيقية، متجذر بعمق في "فطرتنا" – تلك الطبيعة النقية، الطاهرة، والتوحيدية التي وُهب بها كل إنسان عند ولادته. هذه الفطرة تدرك غريزيًا الله بصفته الخالق والرازق الأوحد للكون. وبالتالي، فإن السعي وراء الذات الحقيقية في الإسلام هو في الأساس عودة إلى هذه الحالة الأصلية من النقاء الروحي، واحتضان الدور المخصص للفرد كعبد لله وخليفة له على الأرض، والعيش في خضوع وانسجام مع إرادته. يُوضح القرآن بشكل لا لبس فيه هذه الغاية الأساسية في سورة الذاريات، الآية 56: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه الآية المحورية تشكل حجر الأساس لفهم هويتنا الحقيقية وسبب وجودنا. إنها توضح أن وجودنا ليس مجرد حادث أو مصادفة عشوائية؛ بل هو مشبع بهدف إلهي واضح: عبادة الله. مفهوم العبادة هذا (العبادة) يتجاوز بكثير مجرد الممارسات الشعائرية؛ إنه يشمل كل جانب من جوانب الحياة – أفكارنا، نوايانا، كلماتنا، وأفعالنا – وكلها تؤدى بوعي تام لوجود الله الشامل وحقوقه علينا. عندما يستوعب الفرد هذه الحقيقة العميقة، تتغير أولوياته في الحياة بشكل تحولي، ويصبح كل عمل يقوم به مشبعًا بمعنى وهدف عميقين. هذا التفاني الواعي الشامل هو الخطوة الأولى الجوهرية نحو كشف الذات الحقيقية، ذات تميل بطبيعتها نحو الخير، العدل، والرحمة، والحقيقة. يُعد التطهير الدؤوب للنفس، المعروف بتزكية النفس، عنصرًا بالغ الأهمية في هذه الرحلة التحويلية. يركز القرآن بشكل كبير على ضرورة تطهير النفس الباطنية من الأمراض الروحية السلبية وتزيينها بالفضائل النبيلة. في سورة الشمس، الآيتين 9-10، يُعلن الله تعالى ببلاغة: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". تتطلب عملية التزكية هذه كفاحًا نشطًا ومستمرًا ضد شهوات النفس الدنيا المدفوعة بالأنا (النفس الأمارة بالسوء). وهي تتضمن تنمية وعي عميق بالذات، وفحصًا نقديًا للدوافع، وسعيًا دؤوبًا لاستبدال الميول الأنانية بالتواضع، والرحمة اللامتناهية، والإخلاص الثابت، والإيثار الحقيقي. من خلال الانخراط المستمر في العبادات مثل الصلاة، والذكر الدائم لله، والصيام، وإخراج الصدقات (الزكاة)، والجهاد ضد الشرور الداخلية والخارجية، يتم صقل الروح وتنقيتها تدريجيًا. هذا التطهير الدقيق يسمح لطبيعتها الحقيقية المشرقة بالظهور، غير محجبة بجاذبية الدنيا العابرة والرذائل المهلكة. يلعب الذكر الدائم لله دورًا لا غنى عنه ومحوريًا في هذا السعي العميق لاكتشاف الذات. ففي سورة الرعد، الآية 28، يُجسد هذا الجمال هذه الحقيقة: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". عندما يربي الفرد ذكرًا دائمًا وصادقًا لله، يجد قلبه سكينة عميقة، وطمأنينة، وسلامًا داخليًا. هذه الحالة من السلام الداخلي العميق هي سمة مميزة للذات الحقيقية، وهي حالة مباركة تتوافق فيها الروح تمامًا مع خالقها، متحررة من القلق الذي ينخرها، والرغبات العابرة، والأوهام المشتتة للعالم المادي. الذكر ليس مجرد تلاوة لفظية لعبارات معينة؛ بل هو حالة شاملة من الوعي المستمر واليقظ بوجود الله السامي، مما يؤدي إلى حالة من اليقظة المتزايدة في جميع الأفعال ويعزز ارتباطًا أعمق بالمصدر الإلهي لكل الوجود. هذا الارتباط العميق يعزز الفطرة باستمرار ويوجه الفرد بلا كلل نحو ذاته الأصيلة وغير الفاسدة. علاوة على ذلك، فإن السعي وراء العلم النافع (العلم) أمر بالغ الأهمية في هذا المسعى. فالقرآن، بآياته العديدة، يحث المؤمنين مرارًا وتكرارًا على التفكر، والتأمل، والسعي بنشاط للمعرفة. ففهم آيات الله المعقدة الظاهرة في الكون الفسيح وداخل النفس البشرية، والتعمق في حكمة القرآن التي لا تنضب، واستخلاص الدروس القيمة من حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كلها تساهم بشكل لا يقدر بثمن في فهم أعمق لوجود الفرد وغايته. هذا السعي الفكري والروحي متعدد الأوجه يساعد على تفكيك أي مفاهيم خاطئة، ومعتقدات باطلة، وتحيزات فرضها الإنسان على نفسه والتي قد تحجب الذات الحقيقية، ويكشف في النهاية عن النظام الإلهي المعقد ومكانة الفرد المتواضعة ولكن المهمة ضمنه. في جوهرها، إن العثور على الذات الحقيقية في الإسلام هو رحلة روحية واسعة النطاق تمتد مدى الحياة، وليست وجهة نهائية. وهي تشمل بعمق: 1. اعتناق وحدانية الله المطلقة (التوحيد): إدراك، استيعاب، والعيش بموجب حقيقة أن واقع الفرد النهائي، هويته، وولاءه يرتبطان بالله وحده. 2. العيش بهدف إلهي: فهم وتحقيق حقيقة أن الهدف الأساسي للفرد في الحياة هو عبادة الله، وهي عبادة تتغلغل بوعي في كل فعل ونية. 3. تزكية النفس المخلصة: العمل بنشاط وثبات لتطهير الذات الباطنية من الأمراض الروحية، والعيوب الأخلاقية، والصفات السلبية، مع زراعة وإظهار الفضائل النبيلة في نفس الوقت. 4. الذكر الدائم: الحفاظ على وعي يقظ، ومدرك، وقلبي بوجود الله في كل جانب من جوانب الحياة، مما يؤدي حتمًا إلى حالة دائمة من الطمأنينة الداخلية والرضا الروحي. 5. السعي الدؤوب للمعرفة والتأمل: الانخراط فكريًا وروحانيًا مع آيات الله العديدة في خلقه العظيم ووحيه العميق، مما يسمح بالنمو المستمر والفهم الأعمق. هذا النهج الشمولي والمتكامل لاكتشاف الذات يحول الفرد من كونه مدفوعًا بالرغبات العابرة، وملذات الدنيا الزائلة، والتأكيدات الخارجية، إلى العيش حياة ثابتة تسترشد بالمبادئ الإلهية الثابتة. وهذا يؤدي إلى تحقيق ذاتي حقيقي ودائم ويزرع إحساسًا عميقًا بالذات مرتبطًا أبديًا بخالقه المجيد. إنها رحلة تحقيق الذات النهائية التي تبلغ ذروتها في فهم الحقيقة العميقة والمريحة الواردة في الآية القرآنية: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة 2:156). هذا الإدراك يحول العودة إليه إلى الاكتشاف الأسمى والأكثر أهمية للذات الحقيقية الأبدية.
كان أحد الدراويش، بقلب سعيد ونفس مطمئنة، يجلس في زاوية. مر به رجل ثري يتنهد ويشكو من كثرة عياله ومشاق الدنيا. فقال الدرويش بابتسامة: 'يا أخي، أنت تشكو من كثرة العيال وهموم الدنيا، بينما أنا ليس لدي عيال ولا منزل، ولا مال ولا عمل. ولكن قلبي متحرر من تعلقات الدنيا، ولهذا السبب أنا مرتاح وسعيد.' الرجل الثري، على الرغم من كل ثروته، لم يشعر بالراحة، بينما الدرويش، على الرغم من فقره الظاهري، وجد كنزاً من الطمأنينة الداخلية. هذه القصة توضح أن ذاتنا الحقيقية تكتشف ليس في تجميع المظاهر المادية، بل في التحرر من الهموم الدنيوية والقرب مما يروي الروح.