للحفاظ على النية الخالصة في الأعمال الصالحة، يجب أداء العمل خالصاً لوجه الله، وتجنب الرياء. يتطلب ذلك التركيز على التوحيد، وتفضيل الآخرة، والمحاسبة الذاتية المستمرة، وتجديد النية.
الحفاظ على النية الخالصة في الأعمال الصالحة هو أحد أهم الجوانب، وأكثرها تحدياً في نفس الوقت، للنمو الروحي والتقرب إلى الله تعالى. في الثقافة الإسلامية، ولا سيما في تعاليم القرآن الكريم، تحتل النية مكانة مركزية؛ لأن الأعمال تستمد صحتها وقيمتها الحقيقية من نقاء النية. فبدون نية خالصة، حتى أعظم الأعمال الصالحة قد تُعد لا قيمة لها عند الله، وذلك لأن الهدف الأساسي من أدائها لم يكن رضا الخالق، بل جذب انتباه الناس أو تحقيق مصالح دنيوية. هذا المبدأ الأساسي يتجلى أيضاً في الحديث النبوي الشريف: "إنما الأعمال بالنيات". يؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على أهمية الإخلاص، أي نقاء وصفاء النية. فالإخلاص يعني أداء كل عمل، سواء كان عبادياً أو اجتماعياً، خالصاً لوجه الله تعالى ودون أي شائبة من الرياء (التظاهر أمام الناس)، أو السمعة (اكتساب الشهرة)، أو أي منفعة دنيوية. على سبيل المثال، في سورة البينة، الآية 5، يقول الله تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"؛ هذه الآية تبين بوضوح أن الغاية من الخلق والعبادة هي العبادة الخالصة لله، وأن الإخلاص يعتبر العمود الفقري للدين الحق. أحد أهم التحديات في الحفاظ على النية هو وسوسة الرياء وحب الظهور. فالإنسان بطبيعته يحب أن يُمدح وأن تُرى أعماله الصالحة. يحذر القرآن الكريم في آيات عديدة من هذه الآفة. فعلى سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 264، يقول الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"؛ هذه الآية توضح أن الرياء يمكن أن يبطل ثواب أعظم الأعمال الصالحة كالصدقة. لمواجهة هذه الوسوسة، يجب أن نذكر أنفسنا باستمرار أن المراقب الحقيقي والمجازي الوحيد هو الله، وأن نظرة الناس لا يمكن أن تكون ذات قيمة تضاهي رضا الله تعالى. للحفاظ على النية الخالصة وتقويتها، يمكن العمل بعدة طرق مستوحاة من التعاليم القرآنية: 1. التركيز على التوحيد ووحدانية الله: المحور الأساسي لجميع التعاليم القرآنية هو التوحيد. إذا آمن الإنسان حقاً بـ"لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ"، أي لا معبود بحق إلا الله، وأنه هو الخالق والرازق والمدبر الوحيد للأمور، فمن الطبيعي أن تكون جميع أعماله ونياته خالصة لوجهه تعالى. هذا الإيمان العميق هو أفضل وقاية ضد الشرك الخفي (الرياء). 2. التركيز على الآخرة والجزاء الإلهي: يصف القرآن الكريم باستمرار الحياة الدنيا بأنها عابرة وفانية، بينما يصف الآخرة بأنها دائمة وحقيقية. عندما يجعل الإنسان هدفه الأساسي هو رضا الله والجزاء الأخروي، فإنه لن يسعى وراء المدح الدنيوي الزائل. سورة الإسراء، الآية 19، تقول: "وَمَن أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا"؛ هذه الآية تؤكد أن الجهود الخالصة التي تُبذل للآخرة مقبولة ومُجازاة من الله. 3. المحاسبة الذاتية والتقييم المستمر: يجب على المؤمن أن يفحص نياته بانتظام ويسأل نفسه: هل أقوم بهذا العمل حقاً لله أم لشيء آخر؟ يساعد هذا التقييم الذاتي المستمر في تحديد الدوافع غير الخالصة وإزالتها. لحظة توقف قبل الشروع في أي عمل، وتذكر "الله يراني"، يمكن أن يصحح النية. 4. إخفاء الأعمال الصالحة قدر الإمكان: في بعض الحالات، وللحفاظ على النية من آفة الرياء، يفضل أداء الأعمال الصالحة سراً، خاصة تلك التي لها جانب عبادي فردي، مثل صلاة النوافل، والصدقات الخفية، والأذكار. هذا لا يعني عدم أداء الخير علانية، بل في الحالات التي يُخشى فيها الرياء، تكون السرية أفضل. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 271: "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ"؛ هذه الآية تدل على أن إخفاء الصدقة، إذا كانت النية خالصة، يمكن أن يكون له قيمة أعلى. 5. الدعاء والتضرع إلى الله: بما أن القلوب بين يدي الله، يجب أن نطلب منه باستمرار أن يطهر نياتنا ويحمينا من شر الرياء والعجب بالنفس. الدعوات القرآنية وأدعية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) هي مصادر غنية لطلب الإخلاص في النية. على سبيل المثال، دعاء "اللهم اجعلنا مخلصين لك في ديننا" يمكن أن يكون دائماً على لسان المؤمن. 6. تجديد النية: خلال أداء عمل صالح طويل الأمد، قد تتزعزع نية الإنسان. لذلك، فإن تجديد النية وتذكير النفس المتكرر بالهدف الأساسي (رضا الله) في مراحل مختلفة من العمل، فعال جداً. يساعد هذا التكرار على تثبيت النية الخالصة ويمنعها من الانحراف. في الختام، الحفاظ على النية الخالصة هو عملية مستمرة وصراع داخلي دائم. يتطلب هذا الأمر وعياً مستمراً، وضبطاً للنفس، وتوكلاً كاملاً على الله. فمن يعمل بنية خالصة، لا ينال فقط أجراً أخروياً عظيماً، بل يختبر أيضاً راحة داخلية وبركة في أعماله في هذه الدنيا، لأن قلبه قد تحرر من التعلق بمدح الناس ونقدهم، وأصبح متصلاً فقط برضا ربه.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجل ورع وعابد، كلما صلى أو قام بعمل صالح، تمنى أن يعلم الناس بذلك ويمدحوه. ذات يوم، رآه سعدي الشيرازي وسأله: "يا فاعل الخير، هل كل هذا الجهد منك لكسب رضا الخالق أم لجذب انتباه الخلق؟" شعر الرجل الورع بالاستياء في البداية من كلام سعدي، لكن سعدي بابتسامة لطيفة قال: "أي عمل خالص لوجه الله لا يحتاج إلى مصادقة من عباده. نور الحقيقة يشرق في قلبه ولا يحتاج إلى مصويح دنيوية. إذا كانت نيتك غير رضا الله، فأنت في الحقيقة قد عبدت المخلوق بدلاً من الخالق." أدرك الرجل الورع بعد سماعه هذا الكلام أن نيته الحقيقية يجب أن تكون رضا الله، وليس مدح الناس. ومنذ ذلك الحين، سعى لأداء أعماله سراً وبنية أكثر إخلاصاً لله، ووجد أن راحة أكبر قد حلت بقلبه.