إذا كان الله غنيًا مطلقًا، فلماذا خلق الإنسان ولماذا يتوقع منا أن نعبده؟

الله غني مطلق؛ خلقه وعبادتنا له ليست لحاجة منه، بل هي تجلٍّ لحكمته ورحمته، ومن أجل نمونا وكمالنا نحن. العبادة طريق للمعرفة، الشكر، الطمأنينة، وتحقيق سعادة الإنسان الحقيقية.

إجابة القرآن

إذا كان الله غنيًا مطلقًا، فلماذا خلق الإنسان ولماذا يتوقع منا أن نعبده؟

هذا السؤال العميق والأساسي يكمن في فهمنا للذات الإلهية ومكانة الإنسان في الوجود. يجيب القرآن الكريم على هذا السؤال ببيان بليغ ومنطقي، مبددًا سوء الفهم الذي قد ينشأ عن اللا متناهي لله وعدم حاجته لمخلوقاته. إن الفهم الصحيح لهذه المسألة لا يجلب الطمأنينة الروحية فحسب، بل ينير أيضًا مسار حياتنا وتفاعلاتنا مع العالم. أولاً، يجب أن ندرك أن الله تعالى هو "الغني المطلق". هذه الصفة تعني استغناءه التام عن كل شيء. فهو لا يحتاج إلى عبادتنا، ولا إلى خلقنا، ولا إلى دعمنا، ولا حتى إلى وجود الكون نفسه. وجوده ذاتي، وهو غير محتاج لشيء لاستمراره أو لكماله. آيات مثل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر، الآية 15) توضح بجلاء أننا نحن المحتاجون إلى الله، بينما هو الغني الحميد. ولذلك، فإن الخلق والعبادة من جانبه ليس لتلبية حاجة لديه، بل هما من حكمته البالغة، ورحمته الواسعة، وفضله العميم. ولكن لماذا خلق الإنسان؟ إن خلق الإنسان وكل الكائنات هو تجلٍ لقدرة الله وحكمته وعلمه وإرادته. بما أن الله كمال مطلق، فقد أراد أن تنعكس صفاته الكمالية في مرآة مخلوقاته. هذا الانعكاس لا يعني إضافة شيء إلى الله، بل هو إظهار لعظمته وجلاله. الكون والإنسان هما ميدان ومجال لظهور أسماء الله وصفاته، بما في ذلك الخالق، الرازق، المحيي، المدبر، والرحمن. لو لم يخلق الله، لما نقصت قدرته ولا استغناؤه؛ لكن الخلق هو مظهر من مظاهر كماله. والإنسان، بما وهبه الله من قدرات فريدة كالعقل والاختيار والقدرة على الفهم والاختيار، خُلق كأشرف المخلوقات ليصل إلى أقصى حد ممكن من الكمال، ويبلغ منزلة يتعرف فيها على الله ويقترب منه. هذا الهدف السامي هو ما يشير إليه القرآن بالخلافة الإلهية، أي أن الإنسان لديه القدرة على تجلي بعض الصفات الإلهية على الأرض. ثانيًا، لماذا يتوقع منا أن نعبده؟ الله لا يحتاج إلى عبادتنا، لأنه "إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (آل عمران، الآية 97). وبالتالي، فإن الهدف من العبادة ليس نفع الله، بل نفع الإنسان نفسه. العبادة هي عملية تربية وتطوير لروح الإنسان. إنها مثل الرياضة التي تفيد أجسادنا، وليست لإضافة شيء إلى المدرب؛ أو مثل التعليم الذي ينمي الفكر لدى الطالب، وليس لتلبية حاجة الأستاذ. العبادة، بما في ذلك الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، هي وسائل من أجل: 1. المعرفة واليقظة: تساعد العبادة الإنسان على الاستيقاظ من الغفلة والتذكر بالله وهدف الحياة. هذا اليقظة تؤدي إلى فهم أعمق للذات والكون والخالق. 2. الشكر: العبادة هي تعبير عن شكر الإنسان وامتنانه لنعم الله التي لا تُحصى. الشكر يفتح أبواب المزيد من النعم للإنسان: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم، الآية 7). 3. التطور الأخلاقي والروحي: تصقل العبادة روح الإنسان، وتعزز الفضائل الأخلاقية مثل الصبر، والتقوى، والإيثار، والتواضع، والصدق، وتبعد عنه الرذائل الأخلاقية مثل الكبر، والحسد، والبخل، والأنانية. الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ" (العنكبوت، الآية 45). 4. الطمأنينة والاتصال: الروح البشرية بطبيعتها تحتاج إلى الاتصال بمصدر لا متناهي من الطمأنينة والقوة. وبذكر الله تطمئن القلوب: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد، الآية 28). هذا الاتصال يمنح الإنسان القدرة على مواجهة التحديات ويغرس فيه شعوراً بالأمان والدعم. 5. النظام والهدف في الحياة: تمنح العبادة معنى واتجاهًا لحياة الإنسان. عندما يدرك الإنسان أنه خُلق لغاية سامية، وأن جميع أعماله في سبيل إرضاء الخالق، تتحرر حياته من العبث واللا معنى، وتكتسب نظامًا إلهيًا. وهذا النظام، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، يؤدي إلى مجتمع أكثر صحة وعدلاً. في الختام، إن الغاية من خلق الجن والإنس، كما ورد في الآية "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، الآية 56)، هي "العبادة". ولكن هذه "العبادة" ليست مجرد أعمال عبادية ظاهرة، بل هي نمط حياة يقوم على العبودية، والمعرفة، والطاعة لله. هذه العبودية هي ذروة الحرية والكمال للإنسان، لأنها تحرره من عبودية النفس الأمارة، والشهوات، والدنيا، وتهديه نحو الكرامة الإنسانية والسعادة الأبدية. الله غني ونحن فقراء؛ والعبادة هي وسيلة لنا للتقرب إليه والاستفادة من البركات اللامتناهية للمعرفة والاتصال به. هذه العلاقة تنبع من المحبة والحكمة، لا من الحاجة والإلزام.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن في قديم الزمان، كان هناك ملك عادل وثري جدًا يحكم مملكة كانت كاملة ومكتفية ذاتيًا من جميع النواحي. كان لديه كنوز لا تحصى وجيش لا يستطيع أحد أن يواجهه. ذات يوم، سأله وزير حكيم: "أيها الملك، ما حاجتك إلى كل هذه الضرائب من رعيتك بينما خزائنك تفيض بالفعل؟" ابتسم الملك وقال: "أيها الوزير، أنا أعتبر نفسي غنيًا عن كل مال وثروة. لكن هذه الضرائب هي ثمن النظام الذي أقمته لراحة رعيتي، ووسيلة ليعتادوا على هذا النظام. إذا سعوا بكل إخلاص لخير أرضهم، فإن ذلك يعود بالنفع عليهم هم، لأنهم يجنون ثمار ذلك. فكما أنني لا أحتاج إلى خدمي وحاشيتي، إلا أن خدمتهم للمملكة تجلب لهم الشرف والمكانة، وتضعهم على طريق النمو والتميز." هذه القصة الجميلة تذكرنا بأن الأوامر الإلهية وواجب العبادة هي من أجل كمالنا وسعادتنا نحن، وليس من حاجة لربنا الغني عن العالمين.

الأسئلة ذات الصلة