يسمح الله، بعلمه المطلق، للإنسان بارتكاب الأخطاء كجزء من امتحان حرية الإرادة. هذه الأخطاء فرص للتعلم، النمو الروحي، التوبة، وتجربة الرحمة الإلهية، مما يعكس حكمته وعدله العميقين.
إن السؤال: "إذا كان الله عليماً مطلقاً، فلماذا يسمح لنا بارتكاب الأخطاء؟" يتعمق في أحد أعمق النقاشات اللاهوتية المتعلقة بصفات الله والوجود البشري. إنه تساؤل طبيعي ينشأ عند التأمل في علم الله المطلق والعيوب الظاهرة في السلوك البشري. من منظور إسلامي، يكمن الجواب في الحكمة متعددة الأوجه لخلق الله والهدف الذي حدده للبشرية، بدلاً من أي تناقض في علمه المطلق. أولاً وقبل كل شيء، من الأهمية بمكان التأكيد على علم الله المطلق (العليم، الخبير). يؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً أن الله يحيط بكل علم، ماضي، وحاضر، ومستقبل، وظاهر، وغيب. هو يعلم كل فكر، وكل نية، وكل فعل قبل أن يتجلى. هذا العلم الإلهي ليس مجرد ملاحظة سلبية، بل هو جزء فعال ومعقد من خطته الكاملة للكون. على سبيل المثال، في سورة الأنعام (6:59) يقول تعالى: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ». توضح هذه الآية بوضوح الطبيعة الشاملة لعلمه، الممتد إلى أدق تفاصيل الوجود. ومع ذلك، فإن علم الله المسبق لا يلغي حرية الإرادة البشرية. هذا تمييز حاسم في اللاهوت الإسلامي. الله يعلم ما هي الخيارات التي سنتخذها، لكنه لا يجبرنا على اتخاذها. لقد وهبنا القدرة على الاختيار، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، والقدرة على التصرف بناءً على قراراتنا. تسلط سورة الكهف (18:29) الضوء على هذه الحقيقة العميقة: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». تحدد هذه الآية بوضوح الوكالة البشرية. الكون، في تصميمه العظيم، ليس آلة حتمية تُبرمج فيها كل فعل دون إدخال واعٍ. بدلاً من ذلك، إنه عالم يتم فيه تمكين البشر بمسؤولية أخلاقية وحرية اختيار طريقهم. إن السماح بارتكاب الأخطاء مرتبط بشكل معقد بالهدف الأساسي للحياة البشرية على الأرض: وهو الاختبار والابتلاء (ابتلاء أو فتنة). الحياة ليست مجرد وجود، بل هي رحلة تمييز ونمو ومسؤولية. خلق الله البشر بإمكانية الخير والشر على حد سواء، ومن خلال ممارسة إرادتهم الحرة، ومواجهة الإغراءات، واتخاذ القرارات، وأحياناً الوقوع في الخطأ، تتجلى شخصيتهم الحقيقية. تتناول سورة العنكبوت (29:2-3) هذا الأمر مباشرة: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ». وبالتالي، فإن الأخطاء ليست سهوًا إلهيًا بل هي مكونات أساسية لهذا الاختبار. إنها تعمل على التمييز بين أولئك الملتزمين حقًا بالخير والطاعة وأولئك الذين ليسوا كذلك. بدون إمكانية الخطأ، لن يكون هناك صراع حقيقي، ولا فضل في الصلاح، ولا معنى للسعي نحو التميز. علاوة على ذلك، تعمل الأخطاء كمعلمين عميقين. إنها توفر فرصًا للتأمل الذاتي، والتعلم، والتصحيح. عندما نخطئ، تُتاح لنا فرصة للتعرف على نقاط ضعفنا، وطلب المغفرة، وتصميم على التحسين. عملية التوبة هذه هي حجر الزاوية في الروحانية الإسلامية ويقدرها الله عز وجل بشدة. تقول سورة طه (20:82): «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ». يؤكد هذا الدعاء الإلهي للتوبة على رحمة الله التي لا حدود لها (الرحمن، الرحيم). إنه يسمح لنا بالتعثر، ليس لمعاقبتنا دون رجعة، بل لتمكيننا من إدراك اعتمادنا عليه، وتواضعنا، والعودة إلى الطريق المستقيم بعزم متجدد. باب التوبة مفتوح دائمًا، مما يوضح رغبة الله في نجاحنا النهائي وخلاصنا. كما أن عواقب أفعالنا، سواء كانت جيدة أو سيئة، هي جانب حيوي من سبب السماح بارتكاب الأخطاء. عدل الله (العدل) يقتضي أن كل نفس ستحاسب على أفعالها. سورة الزلزلة (99:7-8) تعلن بقوة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». هذه المساءلة لا معنى لها إذا لم يكن هناك اختيار حقيقي متضمن. وبالتالي، فإن أخطاءنا مسجلة، وسنواجه نتائجها. هذا العلم يعمل كرادع ضد الأخطاء وحافز للسعي نحو الفضيلة. وجود هذه العواقب يؤكد كذلك على حقيقة إرادتنا الحرة والمسؤولية التي تأتي معها. أخيرًا، إن السماح بارتكاب الأخطاء هو مظهر من مظاهر صفات الله من الرحمة والمغفرة والحكمة. لو خُلقت البشرية معصومة، لما كان هناك مجال لظهور صفات الله الكاملة مثل الغفار (الغفور) أو التواب (التائب) في علاقتها بالبشر. إن قدرتنا على الخطأ، والتوبة بعد ذلك، تسمح لنا بتجربة عمق رحمة الله وفضله. إنه يعزز التواضع والوعي الذاتي والسعي المستمر للهداية الإلهية. في الختام، فإن الله، بحكمته وعلمه المطلق، يسمح للبشر بارتكاب الأخطاء ليس لأنه غافل أو غير قادر على منعها، بل لأنه جزء لا يتجزأ من غاية خلق الإنسان. إنه مكون ضروري لاختبار الحياة، ومحفز للنمو الروحي، وفرصة للتوبة وطلب الرحمة الإلهية، والأساس ذاته للمساءلة الإنسانية وحرية الإرادة. إن عيوبنا وأخطائنا، عندما تُقابل بتوبة صادقة وسعي للتحسين، تصبح مسارات لفهم أعمق، وتواضع عميق، واتصال أقوى بخالقنا. هذا الإذن الإلهي بالخطأ هو بالتالي علامة على حكمته وعدله ورحمته التي لا حدود لها، والمصممة لرفع البشرية إلى أقصى إمكاناتها.
يُروى أن شيخًا حكيمًا وعالمًا كان له تلميذ شاب موهوب. على الرغم من ذكائه، إلا أن التلميذ كان أحيانًا، بدافع الغرور أو العجلة، يتجاهل نصيحة معلمه. في أحد الأيام، قال المعلم له: "يا بني، في طريق طلب العلم، لا تتصور أبدًا أنك بلغت الكمال. فكثير من الأفكار التي تبدو لك صحيحة الآن، ستثبت لاحقًا، من خلال التجربة والمحنة، أنها خاطئة. لا تخف من ارتكاب الأخطاء، ولكن احذر من تكرارها دون تعلم الدرس." فكر التلميذ الشاب في الحكمة الكامنة في كلمات معلمه، لأنه كان يعتبر نفسه بلا عيوب. ذات يوم، طلب المعلم منه أن يذهب إلى الجبال ويحضر نبتة معينة، مؤكدًا: "لا تحِد عن الطريق الرئيسي، فإن الطرق الفرعية مليئة بالمصائد والأخطار." اعتقد التلميذ أنه يعرف طريقًا أقصر، فتجاهل نصيحة معلمه وسلك طريقًا فرعيًا. لم يمض وقت طويل حتى ضاع بين الصخور، وانزلقت قدمه وأصيب. في ذلك الظلام والبرد، شعر بالندم الشديد وأدرك أن معلمه لم يمنعه من ذلك الطريق جهلًا منه، بل بعلم وحكمة. بصعوبة كبيرة، تمكن من الوصول إلى الطريق الرئيسي وعاد إلى معلمه بقدم مجروحة. نظر إليه المعلم بنظرة حانية وعطوفة وقال: "يا بني، علمت ما حل بك. على الرغم من أنك عانيت الألم والمشقة، فقد اكتسبت الآن حكمة لا تستطيع مائة كتاب أن تعلمك إياها. كل خطأ يحدث عن جهل، إذا صاحبه التعلم والتوبة، فهو بحد ذاته درجة للوصول إلى الكمال." أخفض التلميذ رأسه، واعتذر لمعلمه، وتعهد بألا يعتبر نفسه أبدًا أكثر حكمة من حكمة أساتذته أو الأوامر الإلهية. ومنذ ذلك الحين، كلما وقع في خطأ، بدلاً من اليأس، تعلم منه، وبفروغ وتواضع أكبر، سار نحو الصواب. وببركات هذه التجربة المريرة، وصل إلى العظمة. هذه القصة تذكرنا بأن الله بعلمه الكامل، يسمح لنا بارتكاب الأخطاء لكي نُهدى، من خلال تجربة المسارات الخاطئة والندم عليها، نحو فهم أعمق للحقيقة والطريق الصحيح للحياة، ونقدر الهدايات الإلهية.