نعم، يؤكد القرآن الكريم صراحة أن كل عمل، حتى أصغرها، يتم تسجيله بواسطة ملائكة الله وسيعرض على الإنسان يوم القيامة. هذا التسجيل الدقيق يشكل أساس العدل الإلهي للثواب والعقاب.
في تعاليم القرآن الكريم الغالية، تذكر هذه الحقيقة بوضوح وبتأكيد كبير أن كل عمل وقول للإنسان، سواء كان صغيراً أم كبيراً، ليس فقط معلوماً ومرصوداً من قبل الله تعالى، بل يتم تسجيله وحفظه بدقة. هذا المفهوم هو أحد الأركان الأساسية للعقيدة الإسلامية، ويؤثر بعمق على أسلوب حياة الإنسان ونظرته إلى الدنيا والآخرة. الله تعالى، العليم بكل شيء والقادر على كل أمر، ليس بحاجة إلى تسجيل أعمالنا ليعلم بها؛ فهو «عليم بذات الصدور» ويعلم حتى ما يخفى في أعماق القلوب. إذن، فالحكمة من هذا التسجيل هي في المقام الأول للإنسان نفسه؛ ليعلم أن لا عمل يبقى بدون حساب، وفي يوم تظهر فيه جميع الأسرار، ستقدم صحيفة أعماله أمامه. يشير القرآن الكريم إلى هذا الموضوع في آيات عديدة. من أوضح الآيات، الآية ٤٩ من سورة الكهف التي تقول: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»؛ أي: «ويوضع الكتاب، فترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً». هذه الآية تنص صراحة على أن «كتاب الأعمال» لا يترك أي عمل، مهما كان صغيراً أو كبيراً، إلا وقد أحصاه وسجله، وكل شيء مسجل فيه. هذا البيان القرآني يزيد من شعور الإنسان بالمسؤولية أضعافاً مضاعفة. كذلك، في سورة ق الآية ١٨ نقرأ: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»؛ أي: «ما ينطق من قول إلا لديه ملك يراقبه ويكتبه». تشير هذه الآية إلى أن ليس فقط الأفعال الجسدية، بل حتى الكلمات التي ننطق بها يتم تسجيلها. ويشمل هذا التسجيل الدقيق النوايا والأفكار الخفية أيضاً، لأن الله عليم بالقلوب، والملائكة بإذنه يعلمون النوايا الحسنة والسيئة. الملائكة المكلفون بتسجيل الأعمال يعرفون في القرآن بـ «كراماً كاتبين» (الكاتبون الكرام)، كما جاء في سورة الانفطار الآيات ١٠ إلى ١٢: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿١٠﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿١١﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿١٢﴾»؛ أي: «وإن عليكم لحافظين (١٠) كراماً كاتبين (١١) يعلمون ما تفعلون (١٢)». هؤلاء الملائكة يرافقون الإنسان دائماً ويسجلون جميع حركاته وسكناته، أقواله وأفعاله، وحتى نياته القلبية بإذن وعلم إلهي. تضمن هذه العملية التسجيلية العدل الإلهي يوم الجزاء؛ اليوم الذي سيرى فيه كل إنسان جزاء أعماله. إن إدراك أن كل عمل يتم تسجيله له تداعيات مهمة في حياة الإنسان. أولاً، يقوي شعور التقوى ومراقبة الذات لدى الإنسان. عندما نعلم أن حتى أصغر الحسنات أو السيئات يتم تسجيلها، نكون أكثر حذراً بشأن أعمالنا وأقوالنا. ثانياً، يمنحنا الأمل والدافع للسعي دائماً نحو الخير. تعبر الآية ٧ و ٨ من سورة الزلزلة بجمال عن هذه الحقيقة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾»؛ أي: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره (٧) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (٨)». هذا يعني أنه لا يغفل عن أي عمل صالح أو سيء، مهما كان تافهاً، وسنرى جزاءه أو عقابه. تنطبق هذه الآية ليس فقط على الأعمال الكبيرة، بل أيضاً على أصغر الأعمال التي نقوم بها في الخفاء أو حتى النوايا التي نحملها في قلوبنا. وبناءً عليه، فإن تسجيل الأعمال حقيقة لا يمكن إنكارها في القرآن تؤثر بشكل كبير على رؤية وسلوك المؤمنين. يدعونا هذا الوعي إلى عيش حياة أكثر مسؤولية وضمير وهدفية. يتعلم الإنسان أن كل لحظة في حياته هي فرصة لزرع بذور الخير، وأن كل غفلة أو ذنب سيتبعه عواقبه. يظهر هذا النظام الإلهي قمة العدل والحكمة، ويضمن أن لا عمل في هذه الدنيا سيبقى بدون حساب، وفي اليوم الموعود، سيرى كل إنسان نتيجة عمله. يمنحنا هذا راحة البال بأن حق أحد لن يُهدر، وأن كل جهد، حتى لو لم يُر في الدنيا، محفوظ عند الله وسيُثاب عليه؛ وأن كل ظلم، حتى لو لم يُعاقب في الدنيا، سيطارد الظالم في الآخرة.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر يقوم بالعديد من الأعمال الصالحة في الخفاء ويساعد الفقراء، لكنه كان يخشى دائمًا أن تذهب أعماله هذه سدى وتُنسى. ذات ليلة، رأى في المنام رجلاً حكيماً قال له: «يا أيها الرجل الصالح، ماذا تظن؟ هل يمكن لله تعالى، الخالق العليم بالغيب والشهادة، أن يغفل عن أعمال عباده؟ إذا سقطت ورقة شجر في ظلام الليل دون أن تراها، فهو يعلمها ويراها. فكيف يمكن أن لا تسجل حسناتك وسيئاتك، التي تنبع من قصد ونية، في صحيفة؟ اطمئن، ففي هذا الوجود، لا يضيع مثقال ذرة من أعمالك الحسنة أو السيئة، فما تزرعه تحصده». استيقظ التاجر من نومه، وعلم أن حضور الله وتسجيل أعماله هما الضمان الأعظم، ووجد قلبه الاطمئنان.