الإيمان الحقيقي لا يكتمل دون تجربة الشدائد، فالابتلاءات تمحص الإيمان وتصقله وتعمقه. والصبر والتوكل في البلاء يوصلان الإيمان إلى كماله.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، الإيمان ليس مجرد اعتقاد ذهني أو إقرار لفظي، بل هو مسار حياة يتناغم فيه قلب الإنسان ولسانه وعمله. وهذا المسار غالباً ما يكون مصحوباً بتحديات ومحن وشدائد متنوعة. فالقرآن يوضح بصراحة أن تجربة الصعوبات واجتياز الابتلاءات جزء لا يتجزأ وضروري من مسار تطور الإيمان. بعبارة أخرى، الإيمان الحقيقي والجذري يُصقل ويتألق في بوتقة الأحداث والشدائد، ليصل إلى ذروة كماله. الله تعالى يوضح الغرض من هذه الابتلاءات في آيات عديدة من القرآن. أحد الأهداف الرئيسية هو التمحيص والتمييز بين الإيمان الحقيقي والإيمان السطحي. في سورة العنكبوت، الآيتان 2 و 3، يقول سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. هذه الآية تُظهر بوضوح أن مجرد الادعاء بالإيمان لا يكفي؛ بل يجب أن يُوضع الإيمان على المحك لتظهر حقيقته. وهذه الابتلاءات ليست لأن الله لا يعلم شيئاً، بل لكي تتجلى حقيقة الإيمان الداخلي للإنسان لنفسه وللآخرين، وليكون الجزاء ودرجات الإيمان مبنية على ذلك. الإيمان بدون تجربة التحديات قد يشبه بناءً جميلاً يفتقر إلى أساس قوي؛ فلن يصمد أمام عواصف الحياة ومصائبها وسينهار. الشدائد والابتلاءات، مثل نار فرن الحداد، تزيل شوائب وجود الإنسان وتصقل جوهره. هذه التجارب المريرة تُعلّم الإنسان الصبر والثبات والتوكل والتسليم لإرادة الله. في سورة البقرة، الآية 155، يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. تُظهر هذه الآية أن الابتلاءات تأتي بأشكال مختلفة (مثل الخوف والجوع وفقدان المال والأنفس والثمرات)، ومفتاح النجاح فيها هو الصبر والثبات. هذا الصبر ليس سلبياً، بل هو صبر فعال مصحوب بالتوكل على الله والسعي للخروج من الوضع الصعب. فمن خلال هذا الصبر يصل قلب المؤمن إلى الطمأنينة والثقة الحقيقية؛ طمأنينة تنبع من العلم بأن الله مع الصابرين، وأن بعد كل عسر يسراً. علاوة على ذلك، توفر الشدائد للمؤمن فرصة لإدراك عمق اعتماده وحاجته إلى الله. ففي الرخاء والراحة، قد يغتر الإنسان بقوته وقدراته وينسى الله. ولكن في الشدة، عندما تبدو جميع الطرق مغلقة، يُجبر الإنسان على العودة إلى الملجأ الوحيد الحقيقي، وهو الله تعالى. هذه العودة، وإن كانت قاسية، إلا أنها غالباً ما تؤدي إلى علاقة أعمق وأكثر إخلاصاً مع الخالق. هذه التجربة للتوكل المطلق تحول الإيمان من مفهوم تجريدي إلى واقع ملموس في الحياة. في الواقع، لقد مر العديد من الأنبياء والأولياء الصالحين بأشد الامتحانات، ومن خلال هذه التحديات وصلوا إلى أعلى درجات الإيمان والقرب الإلهي. فحياة أيوب ويوسف والنبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) مليئة بالدروس حول الصبر والمقاومة في مواجهة الابتلاءات التي أظهرت إيمانهم بأسمى طريقة ممكنة. لذلك، يمكن القول إن الإيمان قد يوجد بدون تجربة الشدائد، ولكن من الصعب اعتبار هذا الإيمان 'كاملاً' أو 'ناضجاً'. فكمال الإيمان يكمن في ثباته واستقراره في جميع الظروف، سواء في الرخاء أو في البلاء، ليكون مرساة آمنة لسفينة وجود الإنسان وسط أمواج الحياة المضطربة. فالشدائد تساعد الإنسان على فهم المعنى الحقيقي للتوكل والشكر في جميع الأحوال والرضا بقضاء الله. إنها تحول الإيمان من مجرد اعتقاد نظري إلى قناعة قلبية وعملية، حيث يواجه المؤمن المشاكل بشجاعة، معتمداً على قوة الله المطلقة، بدلاً من الفرار منها. في النهاية، هذه التحديات هي التي تمنح الإيمان العمق والقوة والأصالة، وتحوله إلى قوة فاعلة في الحياة، لا تجلب السلام في الدنيا فحسب، بل تمهد الطريق للسعادة الأخروية أيضاً. فكل شدة يجتازها المؤمن بالصبر والتوكل، هي درجة يرتقي بها نحو كمال إيمانه.
يُروى أن تاجراً ثرياً، كان مغروراً بماله ومكانته، يعيش في رغد وراحة. إيمانه، وإن كان يجري على لسانه، لم يُصقَل قط في نيران الشدائد. ذات يوم، اضطر إلى خوض رحلة شاقة، عبر صحارى قاحلة وجبال وعرة. أرهقه الجوع والعطش، وخطر قطاع الطرق يهدده من كل جانب. في البداية، بدأ يشتكي ويتذمر، لكنه لما لم يجد معيناً إلا الله الواحد الأحد، رفع يديه بالدعاء وطلب العون منه بقلب مخلص. وكلما ازدادت صعوبة الرحلة، تعمّق توكله، ووجد قلبه السكينة بذكر الحق. بعد عودته من تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، لم يعد هو التاجر السابق؛ فقد أصبح أكثر تواضعاً، وشاكراً لكل نعمة صغيرة، وإيمانه الذي كان في السابق مجرد ميراث من أسلافه، تحول الآن إلى تجربة عميقة وخاصة به. أدرك أن تلك الشدائد لم تكن بلاءً عليه، بل كانت نعمة لتطهير روحه وكمال إيمانه.