الإيمان في القرآن نتاج المعرفة والوعي المستمد من التأمل في الآيات الإلهية والوحي. أما الخوف (الخشية) فهو نتيجة وتكملة لهذه المعرفة، يدفع الإنسان نحو التقوى، وليس هو الأصل الجوهري للإيمان.
فهم مفهوم الإيمان في القرآن الكريم هو موضوع عميق ومتعدد الأوجه لا يمكن اختزاله في عامل واحد. يشير القرآن إلى كل من المعرفة (العلم والإدراك) والخوف في تكوين الإيمان وتعميقه، ولكن طريقة دور كل من هذين العاملين تختلف اختلافاً جوهرياً. في الواقع، الإيمان في القرآن ليس مجرد نتاج خوف أعمى، ولا هو مجرد نتيجة معرفة جافة خالية من الدعم العاطفي. بل يتكامل هذان العاملان، بالإضافة إلى عامل آخر مهم وهو المحبة الإلهية، في تفاعل ديناميكي ومتكامل ليشكلوا أساس الإيمان الحقيقي. يُشدد القرآن الكريم مراراً وتكراراً وبشكل مستمر على دعوة الإنسان إلى التفكير والتعقل والتدبر وطلب العلم. هناك آيات لا حصر لها في جميع أنحاء القرآن الكريم تدعو الإنسان إلى التأمل في خلق السماوات والأرض، وفي النظام المعقد للكون، وفي خلق الإنسان نفسه، وفي الأحداث التاريخية، ومن خلال ذلك يدرك عظمة الله وحكمته وعلمه وقدرته اللامتناهية. هذا التأكيد على المراقبة والتأمل والاستدلال يدل على أن المعرفة والإدراك هما حجر الزاوية في الإيمان الحقيقي. فالإيمان القرآني هو إيمان قائم على البصيرة والوعي، وليس تقليداً أعمى أو قبولاً عاطفياً بحتاً. عندما يصل الإنسان، ببصيرته ومن خلال الآيات الإلهية (الآيات الآفاقية والأنفسية) وكذلك من خلال الوحي الإلهي (الآيات القرآنية)، إلى معرفة ربه، فإن بذور الإيمان تزرع في قلبه. تشمل هذه المعرفة التوحيد، وصفات الكمال الإلهية (مثل القدرة المطلقة، والعلم اللامتناهي، والرحمة الواسعة، والحكمة اللانهائية)، وكذلك معرفة المعاد وهدف الخلق. وكلما كانت هذه المعرفة أعمق وأكثر شمولاً، كان الإيمان أكثر تجذراً ورسوخاً. يقول الله في القرآن: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران، 190-191). إن هذا التفكير والمعرفة هما ما يدفع الإنسان إلى الاعتراف بحقيقة الخالق والاستسلام له. ومن ناحية أخرى، يتناول القرآن أيضاً مفهوم "الخوف"، ولكن ليس بمعنى الخوف الذي ينشئ الإيمان، بل بمعنى الخوف الذي يكمل الإيمان ويقويه ويوجه الإنسان نحو التقوى والابتعاد عن الذنوب. هذا الخوف غالباً ما يطلق عليه "الخشية"، وهو خوف مصحوب بالاحترام والإجلال والمعرفة. يذكر القرآن صراحة: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر، 28). هذه الآية توضح بجلاء أن الخشية هي نتيجة للمعرفة، وليست العامل المنشئ لها. فكلما زاد إدراك الإنسان لعظمة الله وقدرته وعدله، زاد خوفه من عصيانه ومن عواقب ذنوبه. هذا الخوف هو خوف بناء يشجع الإنسان على الالتزام بحدود الله والابتعاد عن المحرمات. إنه يدفع الإنسان إلى اليقظة والمسؤولية تجاه أفعاله ويمنعه من الغفلة والعصيان. بعبارة أخرى، الخوف من العذاب الإلهي ومن فقدان رضا الرب ليس نقطة البداية للإيمان، بل هو محرك للاستمرار والنمو في الإيمان، مما يجعل الإنسان ثابتاً على طريق العبودية والتقوى. كما يجب ألا نغفل عن الدور المحوري "للمحبة" في الإيمان. يقول القرآن: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ" (البقرة، 165). هذه المحبة هي ثمرة معرفة صفات الله الجمالية والكمالية؛ أي معرفة الله بصفاته مثل الرحمن، الرحيم، الرزاق، اللطيف، والكريم. تمثل هذه المحبة أعمق وأكثر الأبعاد ديمومة للإيمان، وتجذب الإنسان بشوق وشغف نحو الله. في الواقع، المعرفة هي بوابة الدخول إلى عالم الإيمان، وتلعب الخشية دور الحارس والمرشد لئلا ينحرف الإنسان عن المسار، والمحبة هي القوة المحركة الأساسية التي تدفع الإنسان بحماس وشغف نحو القرب الإلهي. فالإيمان الحقيقي في القرآن هو توازن دقيق بين هذه الأركان الثلاثة: معرفة عميقة تضيء القلب، وخشية بناءة تنظم السلوك، ومحبة متقدة تسمو بالروح. لذلك، يمكن الاستنتاج أن الإيمان في القرآن يقوم أساساً على المعرفة والوعي. هذه المعرفة تُكتسب من خلال التأمل في الآيات الإلهية والتدبر في الوحي. أما الخوف الذي يتحدث عنه القرآن، فهو خوف مصحوب بالاحترام والوعي (الخشية) وهو نتاج المعرفة وثمرتها، وليس أصلها. هذه الخشية تدفع الإنسان إلى التقوى والابتعاد عن الذنوب، وتكتمل مع الرجاء والمحبة لله، لتصل بالإيمان إلى الكمال. الإيمان الحقيقي لا يبنى على الرعب من قوة مجهولة، بل على فهم عميق ومنطقي لخالق الكون وعلاقة محبة معه. هذا الفهم العميق هو الذي ينير القلب بالنور الإلهي ويبعد الإنسان عن طريق الضلال، ويؤدي في النهاية إلى حياة مليئة بالهدوء والمعنى والهدف.
روي في گلستان سعدي أن ملكاً عادلاً وحكيماً كان يضطرب ليلاً ولا يأتيه النوم. سأله وزيره: "أيها الملك، مع كل هذه القوة والثروة، ما الذي جعلك مستيقظاً؟" أجاب الملك: "إني أتفكر في عظمة هذا العالم، وفي جلال الخلق وقدرة الخالق. كلما تعمقت في هذه المعرفة العميقة، ازداد في قلبي الخوف (الخشية) من الحساب والمحبة للخالق. هذه المعرفة هي التي تدفعني للسهر في الليل شكراً وذكراً، وليس الخوف من فقدان العرش. فكم من الناس يطيعون خوفاً من السيف، ولكن أولئك الذين يخضعون من معرفة جلال الحق، إيمانهم أرسخ وقلوبهم أهدأ."