هل نسيان بعض الأشياء نعمة من الله؟

نسيان الآلام والأخطاء الماضية (بعد التعلم منها) رحمة إلهية تمكن الإنسان من التعافي والتقدم بأمل. لكن نسيان الله والواجبات الدينية غفلة تؤدي إلى الهلاك.

إجابة القرآن

هل نسيان بعض الأشياء نعمة من الله؟

«هل نسيان بعض الأشياء نعمة من الله؟» هذا سؤال عميق يمس جوهر الوجود البشري وحكمة الخلق الإلهي. للوهلة الأولى، قد يبدو النسيان مجرد نقص أو ضعف في الذاكرة. ومع ذلك، عند التأمل بعمق أكبر ومن منظور قرآني، يمكن إدراك أن القدرة على نسيان بعض الأمور، في كثير من الحالات، ليست ضعفًا على الإطلاق، بل هي رحمة عظيمة وهبة إلهية تلعب دورًا محوريًا في الصحة النفسية، والنمو الروحي، واستمرارية الحياة البشرية. فالقرآن الكريم، على الرغم من أنه لا يذكر صراحةً «النسيان نعمة»، إلا أنه من خلال أوصافه للإنسان وخصائصه وتأكيده على رحمة الله وحكمته اللامتناهية، يمكن استنتاج هذا الجانب الإيجابي للنسيان. هذه القدرة تعمل كآلية حماية ضمن الجهاز النفسي البشري، تسمح للعقل بالتحرر من عبء الذكريات غير الضرورية أو المؤذية، وبالتالي الحفاظ على قدرته على معالجة المعلومات الجديدة والمفيدة. الإنسان كائن يتعرض لجميع أنواع التجارب، سارة كانت أم مؤلمة. الحياة مليئة بالتحديات، والآلام، والفشل، والمصائب التي يمكن أن تؤذي الروح والنفس البشرية بشدة. تخيل لو أن الإنسان لم يكن قادرًا أبدًا على نسيان مرارة الماضي؛ كل جرح قديم، كل كلمة قاسية سمعها، كل إخفاق، كل فقدان عزيز، وكل مشهد مؤلم، لظل حيًا في ذهنه بكل تفاصيله وبنفس شدته الأصلية إلى الأبد. مثل هذه الحالة، لن تجعل الحياة لا تُطاق فحسب، بل ستغرق الإنسان في مستنقع من الاكتئاب، والحقد، والقلق المزمن، واليأس. فالجهاز العصبي والنفسي للإنسان مصمم بطريقة تجعله يحتاج إلى إعادة بناء وتحرر من الأعباء الزائدة للبقاء والعمل الأمثل. هنا يتجلى الدور الشفائي للنسيان. إن القدرة على تلاشي الذكريات المؤلمة وشفاء الجروح العاطفية، تسمح للإنسان بالتحرر من الماضي، والتعافي، والتطلع إلى المستقبل بطاقة متجددة. هذه الآلية الطبيعية التي وضعها الله في كيان الإنسان، هي علامة واضحة على رحمته ورأفته اللامتناهيتين، فهو لا يريد لعبده أن يظل معذبًا بشكل دائم بالذكريات المؤلمة. هذه الميزة تساعدنا على الصمود أمام الصعوبات، والنهوض مرة أخرى بعد كل سقطة، ومواصلة الحياة بالأمل. يشير القرآن الكريم إلى الطبيعة البشرية وقابلية آدم (عليه السلام) للخطأ، فيقول: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا» (طه: 115). في هذه الآية، نُسب النسيان إلى آدم، مما يدل على أن النسيان صفة فطرية وطبيعية في خلق الإنسان. هذا النسيان يمكن أن يكون من قبيل النسيان السهوي أو عدم الثبات على العزم. ولكن هذه السمة ذاتها تحمل جوانب إيجابية تجد معناها في سياق الحكمة الإلهية. فلو ظل آدم يتذكر بدقة لحظة معصيته في كل آن، لربما كان من الصعب عليه التوبة والعودة إلى الله بكل وجوده. إن القدرة على نسيان التفاصيل المؤلمة للذنوب الماضية (بعد التوبة الصادقة وطلب المغفرة)، تمنح الإنسان الفرصة للتحرر من قبضة الشعور بالشعور بالذنب المشلّ، والعودة إلى الله بعزيمة متجددة. لذلك، بوضع هذه القدرة في كيان الإنسان، مهد الله الطريق للمغفرة، وبداية جديدة، وتصحيح الأخطاء. يمكن للإنسان أن يتعلم من أخطائه الماضية دون أن يظل مكبلاً بها إلى الأبد، أو أن يغرق في مستنقع الندم ولوم الذات. هذا الجانب من النسيان يعزز الديناميكية والأمل في طريق الكمال. يلعب النسيان أيضًا دورًا حيويًا في العلاقات الإنسانية. ففي الحياة الزوجية، أو الصداقات، أو العلاقات المهنية، تعد الخلافات وسوء التفاهم والأخطاء الصغيرة والكبيرة أمورًا لا مفر منها. فلو لم يتمكن الأفراد من نسيان هذه الخلافات أو على الأقل تقليل حدتها، لسرعان ما تتفكك العلاقات، وتحل الأحقاد والضغائن محل المحبة والألفة. إن القدرة على التغاضي و«نسيان» الأخطاء الصغيرة للآخرين (بمعنى عدم التمادي فيها، وتحرير الحقد، وعدم نبش الماضي)، هي من المكونات الأساسية للسلام، والهدوء، والاستقرار في المجتمع والأسرة. هذا النوع من النسيان، الذي هو في الحقيقة نوع من التجاوز والتسامح وحسن الظن، يساعد الإنسان على ترك النزاعات العبثية والتركيز على الأمور الأكثر أهمية والمشتركات. هذه الصفة، هي انعكاس لصفات الله الحسنى كالعفو، والغفران، والستّار، والتي يعلمها الله لعباده ويشجعهم على تطبيقها فيما بينهم. ولكن من المهم أن نميز بين النسيان المفيد والبناء، والنسيان الضار والمدمر. فالقرآن الكريم يحذر بشدة من نسيان الله، وآياته، ويوم القيامة، والواجبات الدينية والأخلاقية. على سبيل المثال، في سورة الحشر، الآية 19، يقول تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (حشر: ۱۹). وكذلك في سورة الكهف (الآية 63)، ينسب موسى (عليه السلام) نسيانه للسمكة إلى وسوسة الشيطان، مما يدل على أن بعض أشكال النسيان يمكن أن تنجم عن الغفلة أو التأثيرات السلبية. هذا النوع من النسيان، الذي ينبع من الإهمال، أو الغفلة، أو التمرد على الحقيقة، ويؤدي إلى نسيان الذات، وهدف الخلق، والمسؤوليات الإلهية، ليس نعمة على الإطلاق؛ بل هو عقاب إلهي ونتيجة للضلال. هذه الآيات تظهر بوضوح أن القدرة على النسيان، مثل أي هبة إلهية أخرى، يمكن استخدامها بشكل صحيح أو خاطئ. نسيان الله وأوامره، أو نسيان الدروس المستفادة من التجارب الماضية (خاصة الصعوبات)، هو بالتأكيد نقص وعائق للنمو. فالحكمة تكمن في معرفة ما يجب نسيانه وما يجب تذكره دائمًا لنسلك طريق الكمال والسعادة. في الختام، يمكن القول إن القدرة على نسيان بعض الأمور، وخاصة التجارب المريرة، والآلام، والجروح العاطفية، والأخطاء الماضية (بعد أخذ الدروس منها والتوبة وطلب المغفرة)، هي حقًا نعمة لا تقدر بثمن وهبة من الله تعالى. هذه الهبة تتيح للإنسان أن يتحرر من العبء الثقيل للماضي، وأن يتطلع إلى المستقبل بأمل، وأن يصلح علاقاته، وأن يخطو نحو الكمال بروح متجددة وأخف. هذا الجانب من النسيان يكمل الرحمة والحكمة الإلهية التي تمكن الإنسان من عيش حياة أكثر صحة، وأكثر إنتاجية، وأكثر سلامًا. فبدون هذه القدرة، سيصبح عبء الحياة على كاهل الإنسان ثقيلاً لدرجة أن استمراره فيها سيكون صعبًا، بل مستحيلاً. فذاكرة الإنسان ذات قدرة محدودة؛ فلو كان من المفترض أن تحتفظ بكل شيء بتفاصيله الكاملة وبنفس الشدة العاطفية، لتعرضت لتكدس المعلومات والإرهاق الذهني. فلننظر إلى هذه الهبة الإلهية بعين الشكر والتقدير، ولنستخدمها في سبيل صلاحنا وفلاحنا، أي في نسيان ما يجب نسيانه، وتذكر ما هو سبب لسعادتنا الأبدية. هذه القدرة، بحد ذاتها، دليل على التدبير الحكيم لخالق الوجود ولطفه اللامتناهي على مخلوقاته.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في إحدى الليالي، مرّ درويش زاهد بجانب نهر. صادف رجلًا جالسًا على الشاطئ، وجهه عابس ومضطرب، يرمي حصوات في الماء ويتنهد بعمق. سأل الدرويش بلطف: «يا صديقي، ما الفائدة من هذا الحزن اللامحدود؟ لماذا أنت غارق في التفكير هكذا؟» تنهد الرجل وقال: «منذ سنوات مضت، في هذا المكان بالذات، أصابتني حجر في قدمي وسببت جرحًا عميقًا. في كل مرة أمر من هنا، يتجدد ألم ذلك الجرح ولا أستطيع نسيانه.» ابتسم الدرويش وقال: «يا أخي، أنت تتذكر جرحًا ربما يكون قد التأم منذ سنوات. لو لم يمنحنا الله الرحيم القدرة على النسيان، لثقلت علينا أعباء الذكريات المريرة من الماضي إلى حد لا نستطيع معه التحرك. حكاية الدنيا هي أن المرء يجب أن يتذوق المرارة، مثل حبوب الدواء المر، للحظة واحدة فقط ليتعلم الدرس، لا أن يدعها تنهش روحه وتُهلكها. فالحكمة الإلهية تقول إن لكل ألم نهاية، ولكل جرح شفاء. وهذه القدرة على النسيان، هي بحد ذاتها بلسماً إلهياً لجروح القلوب القديمة. ما يجب تذكره هو العبرة، وما يجب التخلي عنه هو عبء الحقد والحزن الأبدي. اعلم أن السلام يكمن في التخلي، لا في التمسك.» تأمل الرجل قليلًا عند سماعه هذه الكلمات، وشعر وكأن حملاً قد أُزيل عن كاهله. أدرك أنه على الرغم من الألم اللحظي الذي مر به، إلا أن الله بلطفه قد وهبه نعمة النسيان ليتمكن من العيش من جديد ويجد السلام.

الأسئلة ذات الصلة