يُشدد القرآن الكريم على شكر <i>جميع</i> النعم، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فكلها علامات على الفضل الإلهي، وشكر أي منها يزيد البركة والرضا في الحياة. الأهمية تكمن في فعل الشكر نفسه والتعرف على المصدر الإلهي للنعم، وليس في حجمها.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية، يُعدّ مفهوم الشكر ركيزة أساسية من ركائز الإيمان والعبودية. القرآن لا يميز صراحةً بين «النعم الصغيرة» و «النعم الكبيرة» ليُعطي الأفضلية لإحداهما على الأخرى. بل يُشدد على الشكر والامتنان لـ جميع النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، سواء تلك التي تبدو عظيمة وملفتة للنظر للوهلة الأولى، أو تلك التي قد تُغفل بسبب تكرارها وشمولها. هذه النظرة الشاملة والواسعة للنعم تُشكل أساس الشكر في الإسلام، وتدل على حقيقة أن كل ما يأتي من الله يستحق الحمد والثناء. يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى التفكر في خلق الله ونعمه التي لا تُحصى. فمن استنشاق الهواء في كل لحظة، إلى الماء العذب الذي نشربه، والنور الذي يهدينا الطريق، وصحة الجسد والروح، والأسرة، والأصدقاء، والأمن، والرزق، وحتى القدرة على الرؤية، والسمع، والكلام – كل هذه نعمٌ أنعم الله بها علينا، بغض النظر عن حجمها الظاهر أو ضآلتها. في الواقع، الكثير مما نعتبره «نعمًا صغيرة» يُشكل الأسس الجوهرية لحياتنا. فبدون الهواء النظيف، والماء الصالح للشرب، أو القدرات الجسدية الأساسية، تُصبح أعظم الثروات والمراكز بلا قيمة. لذلك، من منظور قرآني، كل نعمة، بغض النظر عن حجمها في نظر البشر، هي علامة على فضل الله ورحمته التي لا حد لها، وتُعدّ في موضعها عظيمة وحيوية جدًا. آيات عديدة في القرآن تُؤكد على أهمية الشكر، مثل الآية السابعة من سورة إبراهيم التي تقول: «لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ» (لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). تُظهر هذه الآية أن الوعد الإلهي بزيادة النعم مشروط بمبدأ الشكر، ولا تُفرق بين نوع النعمة (صغيرة أو كبيرة). هذا يعني أن أي شكل من أشكال الشكر، سواء كان لابتسامة، أو لقمة خبز، أو لأمن بلد، مقبول عند الله ويُؤدي إلى زيادة رحمته. ومن ثم، فإن التركيز على شكر النعم التي تبدو «صغيرة» أمر حيوي للغاية، لأن هذا الشكر يُؤدي تدريجيًا إلى فهم عمق وفضل الله الشامل، ويُغير نظرة الإنسان إلى الحياة. شكر النعم الصغيرة يُؤدي بالإنسان إلى حالة من الوعي والحضور الدائم أمام الفضل الإلهي. فعندما يعتاد المرء على الشكر لكل نَفَس، وكل لقمة، وكل قطرة ماء، وكل لحظة هدوء، يمتلئ قلبه وروحه بالرضا والطمأنينة. هذا الشكر المستمر لا يُحسن حالة الفرد الروحية فحسب، بل يُحرره أيضًا من فخ السخط والحسرة. في المقابل، من يسعى فقط وراء «النعم الكبيرة» ويُغفل عن النعم الجارية والمستمرة، فإنه سيظل دائمًا يبحث عن ما ينقصه، ونادرًا ما يشعر بالرضا، حتى لو كان من أغنى الناس وأكثرهم قوة. يُنبه القرآن الكريم في آيات عديدة الإنسان إلى النظر إلى ما لديه بدلًا من تعداد ما يفتقده، وأن يكون شاكرًا. شكر النعم ليس مجرد واجب، بل هو مسار للنمو والكمال الإنساني. هذا الفعل يُشير إلى بصيرة عميقة للإنسان تجاه الخالق والوجود. من يشكر فهو متواضع، ويرى نفسه صغيرًا أمام القدرة والفضل الإلهي الذي لا ينضب. هو يعلم أن كل ما لديه هو من الله، وهذا العلم يجعله كائنًا شاكرًا، صبورًا، وراضيًا. بالإضافة إلى ذلك، يحمي الشكر الإنسان من الغرور والطغيان؛ لأنه يُذكر بأن كل لحظة في الحياة هي هبة يمكن أن تُسلب منه. لهذا السبب، يُشدد القرآن على الامتنان لجميع النعم، سواء كانت مادية أو روحية، فردية أو اجتماعية، ظاهرة أو باطنة. في الختام، لا يمكن القول بأن شكر النعم الصغيرة أهم من شكر النعم الكبيرة، أو العكس. في الثقافة القرآنية، كل نعمة، من أي نوع، هي فرصة للشكر والتقرب إلى الله. تُحدد أهمية كل نعمة من هذا المنظور: كيف يمكن أن تقود الإنسان نحو شكر وعبودية أكبر. الشكر على النعم التي تبدو صغيرة يُظهر دقة الملاحظة، والتواضع، وعمق الإيمان، لأنه يُمكن الإنسان من رؤية حضور الله في أدق تفاصيل حياته. ومن ناحية أخرى، يُعبر الشكر على النعم الكبيرة عن الامتنان للهبات الواضحة والمُغيرة للحياة. كلا النوعين من الشكر يُشكلان جزءًا لا يتجزأ من حياة الإيمان والشكر، وكلٌ منهما بدوره يُمثل أساسًا لزيادة الخير والبركة في الدنيا والآخرة. هذا الترابط والشمولية في الشكر هو الرسالة الأساسية للقرآن.
من قصص سعدي العذبة في «گلستان» (بستان الورد)، قصة رجل أضاع حذاءه وكان حزينًا جدًا لذلك. كان يشكو بمرارة من حاله، ظانًا أن الدنيا قد أدارت له ظهرها. وبينما كان يسير في سوق الكوفة، وقع بصره فجأة على رجل بلا قدمين. في تلك اللحظة، شعر الرجل الذي فقد حذاءه بالخجل، وبدلًا من حزنه على حذائه الضائع، خرّ ساجدًا شكرًا وقال: «الحمد لله الذي أعطاني قدمين، ولم يكن الحذاء ضرورة.» تُعلمنا هذه القصة الجميلة أن نكون شاكرين للنعم التي تبدو صغيرة وبديهية في الحياة؛ ففي بعض الأحيان، ما نعتبره تافهًا هو أمنية عظيمة للآخرين، وهذا المنظور يفتح بابًا للسلام الداخلي والرضا.