هل الجبر التاريخي مقبول في القرآن؟

القرآن الكريم لا يقبل الجبر التاريخي المطلق الذي ينفي حرية الاختيار عن الإنسان. بل يؤكد على مسؤولية الإنسان واختياره وأفعاله في تشكيل المصير، مع الاعتراف بالعلم والحكمة الإلهية.

إجابة القرآن

هل الجبر التاريخي مقبول في القرآن؟

يشير مفهوم 'الجبر التاريخي' إلى فكرة أن مسار الأحداث التاريخية محدد مسبقًا وحتمي، وأن إرادة الإنسان وخياراته لا تلعب دورًا يذكر في تشكيله. على النقيض من ذلك، يشير 'الاختيار' إلى القدرة على الاختيار وحرية الإرادة التي يمكن للإنسان من خلالها التأثير على مصيره ومصير مجتمعه. بالنظر الدقيق إلى آيات القرآن الكريم، ندرك أن التعاليم القرآنية لا تتفق مع مفهوم الجبر التاريخي بمعناه المطلق، الذي يعني سلب كامل إرادة الإنسان، ولا تقبله. فالقرآن الكريم، بينما يقر بالعلم الإلهي المطلق والقضاء والقدر الإلهي، يؤكد بشكل كبير على الدور المحوري لإرادة الإنسان، واختياره، وعمله في تشكيل المصير الفردي والجماعي. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا على مسؤولية الإنسان عن أفعاله. فإذا كان كل شيء جبريًا ومحددًا مسبقًا، ولم يكن للإنسان أي اختيار، فإن مفاهيم مثل التكليف، والثواب، والعقاب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفقد معناها ومغزاها. آيات مثل: "لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" (البقرة: 286) تظهر بوضوح أن كل إنسان يرى نتيجة أعماله. هذا المبدأ "من زرع حصد" هو حجر الزاوية لنظام الثواب والعقاب في القرآن، وبدون الإرادة الإنسانية، سيكون هذا النظام بلا معنى. يُعرّف الإنسان في القرآن على أنه كائن مختار لديه القدرة على الاختيار بين طريق الخير والشر، والحق والباطل، ويكون ثوابه وعقابه بناءً على هذه الخيارات. كما يشير القرآن إلى السنن الإلهية في التاريخ التي ترتفع على أساسها المجتمعات أو تسقط. ولكن هذه السنن هي قوانين ثابتة لا تتغير، وهي مرتبطة بأعمال الإنسان وخياراته، وليست جبرًا مطلقًا لا مفر منه. الآية الكريمة: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11) هي مبدأ أساسي في هذا الصدد. هذه الآية تنص صراحة على أن حال المجتمع لا يتغير إلا إذا غيرت الجماعة نفسها. يمكن أن يكون هذا التغيير إيجابيًا (نحو الصلاح والتقوى) أو سلبيًا (نحو الفساد والظلم). هذه الآية تؤكد بوضوح دور الإرادة الجماعية والقرارات الإنسانية في تغيير مصير قوم وسير التاريخ. لو كان الجبر التاريخي المطلق هو السائد، لما كانت هناك حاجة لدعوة الأنبياء، وإرسال الكتب السماوية، والجهد لإصلاح المجتمع، لأن ما كان سيحدث، سيحدث بغض النظر عن إرادة الإنسان وعمله. علاوة على ذلك، فإن قصص الأنبياء والأمم السابقة في القرآن مليئة بالدروس التي تظهر كيف أن خيارات الناس وقراراتهم – سواء في قبول الحق أو الإعراض عنه – قد حددت مصيرهم. فهلاك الأمم الظالمة، ونجاة المؤمنين، كان نتيجة مباشرة لخياراتهم وسلوكياتهم. تُعرض هذه الأحداث التاريخية كنماذج للعبرة للأجيال اللاحقة ليتعلموا من أخطاء السابقين ويختاروا طريقًا أفضل لأنفسهم. هذا التأكيد على أخذ العبرة، هو بحد ذاته دليل على وجود الاختيار وإمكانية التغيير في مسار التاريخ. إن العلم الإلهي والقضاء والقدر في القرآن لا يعنيان نفي اختيار الإنسان. فالعلم الإلهي يعني أن الله يعلم منذ الأزل جميع الخيارات ونتائجها. وهذا العلم لا يعني الإجبار. تمامًا كما لو أننا نعرف نتيجة امتحان، ولكن هذه المعرفة لا تجبر الطالب على إعطاء إجابات معينة. والقضاء والقدر أيضًا يشيران إلى الخطة والتصميم الإلهي الكلي للكون، والتي في إطارها يتصرف الإنسان بإرادته الحرة. لقد وضع الله سننًا في العالم، فإذا تصرف الإنسان وفقًا لها، فإنه يحقق نتائج إيجابية، وإذا تحرك ضدها، فإنه يواجه عواقب سلبية. هذه السنن، تعمل أيضًا بناءً على اختيار الإنسان وأدائه، بدلاً من جره إلى اتجاه جبري. لذلك، يمكن استنتاج أن القرآن الكريم يعارض أي تفسير للجبر التاريخي يستلزم سلب المسؤولية والاختيار عن الإنسان. ففي النظرة القرآنية، الإنسان كائن حر، مسؤول، ومختار، وهو الذي يشكل باختياراته وأفعاله مصيره وجزءًا من مسار التاريخ. وفي الوقت نفسه، يقع هذا الاختيار ضمن إطار العلم والحكمة الإلهية والسنن الحاكمة للكون. هذا التوازن بين القضاء والقدر والاختيار هو أحد أجمل وأعمق التعاليم القرآنية التي تمنح الإنسان الأمل والمسؤولية؛ الأمل في تغيير المصير نحو الأفضل والمسؤولية تجاه خياراته وأفعاله.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يروى في گلستان سعدي أن ملكًا ووزيره الحكيم كانا يتناقشان حول أقدار الناس. قال الملك: "في رأيي، قدر كل إنسان محدد سلفًا، ولا شيء يمكن أن يغيره." فرد الوزير بابتسامة لطيفة: "يا أيها الملك، لو كان الأمر كذلك، فلماذا تسعى لتقوية جيشك وإقامة العدل في مملكتك؟ لماذا تأمر المزارع بزرع القمح، وتقول للتاجر ألا يخاف الكساد؟" فكر الملك قليلاً. واصل الوزير: "القدر الصالح هو جزاء الجهد والإرادة النقية، والقدر السيئ هو نتيجة التقاعس والفساد. الله يبيّن الطريق ويمنح العقل والاختيار، ولكن السير في هذا الطريق هو بقدم عزيمتنا وإرادتنا. فلو جلس كل شخص وقال: 'ما قدر سيكون'، لما بني بناء ولا حصل علم. والتاريخ أيضًا هو مسرح هذه الاختيارات والجهود بالذات." أخذ الملك العبرة من كلام وزيره الحكيم، وأدرك أكثر من ذي قبل أهمية السعي والتدبير في إدارة شؤون المملكة.

الأسئلة ذات الصلة