يؤكد القرآن الكريم على حرية الإرادة الإنسانية لا الجبر. يُمنح الإنسان خيارًا بين الخير والشر، وهو مسؤول عن أفعاله، فالثواب والعقاب مبنيان على هذا الاختيار.
يؤكد القرآن الكريم بوضوح تام أن الإنسان كائن مخيّر وذو إرادة واختيار، وليس مجبراً بأي حال من الأحوال على ارتكاب المعصية أو فعل الخير. لقد وهب الله تعالى الإنسان العقل، والفطرة السليمة، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، فضلاً عن الأنبياء والكتب السماوية للهداية، لكي يميز طريق الهدى عن طريق الضلالة. إن حرية الاختيار هذه هي حجر الزاوية في مسؤولية الإنسان عن أفعاله، لأن الثواب والعقاب في الآخرة لا يكتسبان معنى إلا إذا كان الإنسان حراً في اختيار طريقه. لو كان الإنسان مجبراً على فعل شيء ما، لما اقتضى العدل الإلهي محاسبته ومساءلته. يصف القرآن الكريم الحياة الدنيا بأنها ميدان اختبار للبشر. في هذا الميدان، يواجه الإنسان باستمرار وساوس ودعوات إلى المعصية من جهة، ونداء الفطرة، والهداية الإلهية، والدعوة إلى الخير من جهة أخرى. ويقع اختيار أحد هذين المسارين بالكامل على عاتق الإنسان نفسه. وتؤكد آيات كثيرة في القرآن حرية اختيار الإنسان. فعلى سبيل المثال، في سورة الكهف، الآية 29، يقول الله تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، أي: «فمن أراد فليؤمن ومن أراد فليكفر». هذه الآية تدل بوضوح على حرية الاختيار في القضية الأساسية، وهي الإيمان والكفر. وكذلك في سورة الإنسان، الآية 3 يقول: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، أي: «إنا بيّنا له طريق الخير والشر، فإما أن يكون مؤمنًا شاكرًا، وإما أن يكون كافرًا جحودًا». هذه الآية أيضاً توضح دور الله الهادي وكون الإنسان مختاراً. من ناحية أخرى، فإن الفهم الصحيح للقضاء والقدر الإلهي له أهمية كبيرة في هذا النقاش. قد يتصور البعض أن القضاء والقدر يعنيان الجبر المطلق، وأن مصير كل إنسان محدد مسبقاً، وأن الإنسان لا يلعب أي دور فيه. ولكن في المنظور القرآني، فإن القضاء والقدر الإلهي يعنيان علم الله المسبق بأفعال البشر، وليس فرضها عليهم. فالله يعلم منذ الأزل أي طريق سيختاره الإنسان بإرادته، ولكن هذا العلم الإلهي لا يسلب حرية الاختيار من العبد بأي حال من الأحوال. بعبارة أخرى، علم الله ليس سبباً لعمل الإنسان، بل هو تابع لعمل الإنسان الاختياري. تماماً كالمعلم الذي يعلم مسبقاً أي طالب سينجح بجهده وأي طالب سيفشل بسبب كسله؛ فهذا العلم من المعلم لا يسبب نجاح الطالب أو رسوبه، بل هو نتيجة لاختيار وأداء الطالب نفسه. إن تحمل المسؤولية عن الأفعال، والتوبة، والاستغفار، وطلب المغفرة، التي يؤكد عليها القرآن الكريم في جميع مواضعه، كلها دلائل على أن الإنسان كائن مخيّر. فلو كان الإنسان مجبراً على المعصية، لكانت التوبة والندم بلا معنى، لأنه قام بفعل لم يكن له خيار فيه. لكن القرآن يدعو البشر مراراً وتكراراً إلى التوبة والعودة عن المعصية، ويبشر بالمغفرة، وهذا الأمر لا يكتسب معناه إلا في ظل حرية اختيار الإنسان ووعيه. بالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم الجهاد مع النفس، ومقاومة الشيطان والهوى، المشار إليه في القرآن، يدل أيضاً على هذه القدرة على الاختيار وقدرة الإنسان على التغلب على الميول السلبية. فالشيطان يوسوس فقط، والإنسان يمتلك القدرة على المقاومة واختيار الطريق الصحيح، كما يقول الله تعالى في سورة إبراهيم، الآية 22 على لسان الشيطان يوم القيامة، بأنه لم يفعل شيئاً سوى الوسوسة، واللوم يقع على البشر أنفسهم الذين قبلوا دعوته. باختصار، يقدم القرآن الكريم صورة شاملة ومتوازنة للإنسان، فيصوره ككائن ذي إرادة حرة واختيار، وله القدرة على الاختيار بين الخير والشر، الهدى والضلال، في مسيرة حياته. إن هذا الاختيار هبة إلهية تدل على كرامة الإنسان وتجعله مسؤولاً عن أفعاله. ولذلك، فإن المعصية هي نتيجة اختيار الإنسان وسوء استخدامه لهذه الحرية، وليست جبراً أو إكراهاً إلهياً. لقد بين الله الطريق، وأعطى أدوات الاختيار، وذكر عواقب كل اختيار، والإنسان هو الذي بإرادته يختار طريق السعادة أو الشقاء.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك عالم ورع حكيم كان دائماً يقدم النصح للناس. ذات يوم، سأله طالب: «يا أستاذ، هل الإنسان مجبر على المعصية أم مخيّر؟» فابتسم العالم وقال: «انهض وارفع رجلك اليمنى.» ففعل الطالب. فقال العالم: «الآن ارفع رجلك اليسرى أيضاً!» فقال الطالب: «هذا مستحيل يا أستاذ، إذا رفعت كلتا رجلي، فسأسقط.» فقال العالم: «أحسنت! هذا هو بالضبط. كنت حراً في اختيار رفع إحدى رجليك، ولكنك لم تكن قادراً على رفع كلتيهما. وبالمثل، فقد منحك الله القدرة على اختيار فعل شيء أو عدم فعله، لكن نتيجة اختياراتك، مثل السقوط أو الوقوف، ليست تحت سيطرتك بالكامل وتخضع للقوانين الإلهية. إذن، أنت مخيّر في خطواتك الأولى، ولكن لا يمكنك الهروب من عواقبها.» هذه القصة اللطيفة على غرار قصص سعدي، تذكرنا بأن الإنسان يتمتع بحرية كاملة في خطواته الأولى لاختيار طريق الخير أو الشر، وهذه القوة في الاختيار هي التي تجعله مسؤولاً عن أفعاله.