يؤكد القرآن أن الإنسان كائن مختار ومسؤول عن قدره، وأن مصيره يتوقف على اختياراته وأعماله. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
«هل الإنسان مسؤول عن قدره؟» هذا السؤال من أعمق الأسئلة وأكثرها جوهرية التي شغلت ذهن البشر منذ الأزل، وقد قُدمت إجابات متنوعة له في الفلسفات والأديان المختلفة. من منظور القرآن الكريم، الإجابة على هذا السؤال إيجابية وبتركيز كبير على دور الإنسان ومسؤوليته في تحديد مصيره، سواء في الدنيا أو الآخرة. فالقرآن، على الرغم من إقراره بالقضاء والقدر الإلهي وعلم الله الأزلي، لا ينفي أبدًا الإرادة والاختيار البشريين، بل يجعلهما أساس التكليف والثواب والعقاب. هذان المفهومان (القضاء والقدر والاختيار) في النظرة القرآنية ليسا متناقضين، بل هما متكاملان. فالله هو العليم المطلق، يعلم كل ما كان وما هو كائن وما سيكون، ولكن هذا العلم الإلهي لا يفرض جبرًا على إرادة الإنسان. هذا العلم الإلهي، بمثابة خريطة طريق يعلم الله من خلالها جميع الاختيارات ونتائجها، ولكن هذا العلم لا يعني إجبار الإنسان على اختيار مسار معين. فالإنسان يمتلك قوة الاختيار والتمييز بين الخير والشر، وهذه القدرة هي حجر الزاوية في مسؤوليته. يؤكد القرآن الكريم في آيات عديدة على قدرة الإنسان على الاختيار والإرادة الحرة. على سبيل المثال، في سورة الكهف الآية 29 يقول تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). هذه الآية تعلن بوضوح أن طريق الحق والباطل قد وضح، وأن اختيار أي منهما يقع على عاتق الإنسان نفسه. هذه هي المسؤولية التي وُضع ثقلها على كاهل الإنسان. لو لم يكن للإنسان أي اختيار، لأصبح مفهوم التكليف والأمر والنهي والثواب والعقاب والجنة والنار بلا معنى. فالعدل الإلهي يقتضي أن يكون الثواب والعقاب مبنيين فقط على الأعمال التي صدرت عن اختيار وإرادة. لقد منح الله الإنسان العقل والفطرة وأرسل الأنبياء ليرشدوه إلى الطريق الصحيح، ولقد أقام الحجة عليه؛ ولكن في النهاية، الإنسان هو من يقرر قبول هذه الهداية أو رفضها. هذا الاختيار هو الذي يوجه مساره نحو السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي. من أجمل التعبيرات القرآنية التي توضح مسؤولية الإنسان في تغيير مصيره، ما ورد في سورة الرعد الآية 11: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). هذه الآية تبين بوضوح أن التغيير والتحول في مصير الفرد أو المجتمع يبدأ من الداخل، ومن خلال قراراتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وأعمالهم. فالخير والشر، والتقدم والتخلف، والعزة والذلة، كلها تنبع من اختيارات الإنسان وسعيه. وهذا يعني أن الإنسان ليس مسؤولاً فقط عن أفعاله، بل هو مسؤول أيضًا عن تغيير حالته وظروف حياته. هذه الآية دعوة واضحة إلى تزكية النفس، والاجتهاد، والتحول الداخلي، وتؤكد أنه لا يوجد جبر خارجي يغير مصير الإنسان دون إرادة داخلية منه. هذا المبدأ القرآني باعث للأمل ومُولِّد للمسؤولية؛ لأنه يمنح الإنسان القوة لتوجيه حياته نحو ما يشاء بإرادته وجهده، ويحرره من مآزق الجبرية المحضة. يؤكد القرآن أيضًا أن كل عمل، سواء كان خيرًا أو شرًا، سيكون له نتيجة وانعكاس على فاعله. في سورة الزلزلة الآيتين 7 و 8 نقرأ: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿۷﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿۸﴾» (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره). تشير هذه الآيات إلى أقصى درجات الدقة والعدالة في نظام الثواب والعقاب الإلهي، وتجعل كل فرد مسؤولاً مباشرة عن أدنى أعماله. هذه المسؤولية تشمل النوايا والأفكار والأعمال التي يقوم بها الإنسان طوال حياته. مفهوم «الكسب» في القرآن يعني أيضًا هذا؛ أي أن كل ما يحصل عليه الإنسان، سواء كان خيرًا أو شرًا، هو نتيجة لجهوده واختياراته. هذه النظرة تخرج الإنسان من حالة الانفعالية وتحوله إلى كائن فعال وديناميكي يمكنه أن يصنع مسار حياته من خلال قرارات واعية. هذه المسؤولية لا تقتصر على الأعمال الفردية، بل تشمل المسؤولية الاجتماعية أيضًا. فالإنسان مسؤول تجاه مجتمعه، وأسرته، وحتى بيئته. فالقرآن الكريم يصف الإنسان بأنه «خليفة الله» في الأرض (سورة البقرة، الآية 30)، وهذا المقام يحمل مسؤولية خطيرة لإعمار الأرض وإقامة العدل والقسط فيها. اختيار المسار الصحيح في الحياة يتطلب الاستفادة من الهدايات الإلهية التي أُرسلت عبر الأنبياء والكتب السماوية. لقد بين الله الطريق وهدى الإنسان إلى الحق بالعقل والفطرة، ولكن اتخاذ الخطوات في هذا الطريق أو الانحراف عنه، يعود كليًا إلى اختيار الإنسان. إذا لم يتحمل الإنسان مسؤولية هذا الاختيار وألقى باللوم على القدر أو العوامل الخارجية، فقد أهمل في الحقيقة مكانته الإنسانية الرفيعة. في الختام، المصير الأخروي لكل إنسان يعتمد كليًا على اختياراته وأعماله الدنيوية. فالجنة والنار هما النتيجة الطبيعية والمنطقية للمسارات التي يختارها الإنسان طوال حياته. يوضح القرآن بصراحة أنه لا تحمل نفس وزر أخرى، وأن كل نفس جزاء عملها. «وَأَن لَّیْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ» (وألا ليس للإنسان إلا ما سعى - سورة النجم، الآية 39). هذه الآية تعبر عن أقصى درجات مسؤولية الإنسان والربط المباشر بين الجهد ونتائجه. حتى عندما يواجه الإنسان صعوبات وبلايا، يقول القرآن في سورة النساء الآية 79: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ» (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك). هذه الآية تؤكد أيضًا مسؤولية الإنسان عن المصائب والمشاكل التي تلحق به بسبب سوء اختياراته أو أعماله. هذا يعني أن الله تعالى هو مصدر كل خير وبركة، ولكن كل سوء وشر يصيب الإنسان هو نتيجة مباشرة لاختياراته وقراراته الخاطئة. هذه النظرة تمنح الإنسان القوة لمنع العديد من المشاكل وصياغة مصير أفضل لنفسه من خلال اختيارات وتفكير سليم. هذا التوضيح القرآني لمسؤولية الإنسان عن مصيره لا ينفي التوكل على الله والمساعدة الإلهية. بل على العكس، التوكل والدعاء هما مكملان للجهد والسعي. يجب على الإنسان أن يبذل قصارى جهده، وإلى جانب ذلك، يطلب العون من الله ويتوكل عليه. هذا هو «الجمع بين الجبر والاختيار» الذي أشارت إليه التعاليم الإسلامية: الجهد والسعي في مسار الاختيار والإرادة، والتوكل والاعتماد على علم الله وقدرته المطلقة. في الختام، يعلن القرآن الكريم بقطعية أن الإنسان كائن مختار، مسؤول، وواعٍ، وأن مصيره الدنيوي والأخروي يرتكز على اختياراته وأعماله. هذه المسؤولية ليست عبئًا ثقيلاً فحسب، بل هي علامة على كرامة الإنسان ومكانته الرفيعة عند الله، وتمنحه القدرة على بناء مسار حياته بوعي ومسؤولية وإرادة وعزيمة. هذا الفهم العميق هو أساس كل تقدم وكمال إنساني.
في أحد الأيام، جلس رجل فقير ومُتعب، وهو متصوف، على عتبة منزل، يتنهد ويقول: "أي مصير حل بي! يبدو أن القدر الإلهي قد قضى بأن أظل دائمًا فقيرًا وعاجزًا." في تلك اللحظة، مر شيخ حكيم، رجل ذو بصيرة ومعرفة، فسمع كلماته. اقترب الشيخ من الرجل، وابتسامة تملأ وجهه، وقال: "يا أيها الشاب، ما هذا الكلام الذي تتفوه به؟ هل تظن أن القدر الإلهي بلا حكمة؟" أجاب المتصوف: "نعم، قدرنا كُتب هكذا." ابتسم الشيخ بلطف وقال: "ألم تسمع ما قاله سعدي الشيرازي: 'رجل ذو صيت حسن لا يموت أبدًا'، وأيضًا أن 'السعي والاجتهاد' هما اللذان يثمران الخير؟ يا صديقي، الله هو الرزاق، ولكنه يفتح باب الرزق فقط لأولئك الذين يخطون خطوة ولا يغفلون عن كنوزهم الداخلية. هل بذلت أي جهد لتغيير حالك؟ توقف عن الشكوى وبدلاً من ذلك، اخطُ خطوة نحو كسب الرزق. مصيرك بين يديك، وليس في جبر الزمان." فكر الرجل مليًا في هذه الكلمات. ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، تخلى عن كسله، ومن خلال الجهد والسعي، غير حياته وتحرر من قيود الفقر واليأس. لقد فهم أن إرادة الإنسان تلعب دورًا مهمًا في صياغة مصيره.