القرآن يؤكد على التأمل في الذات والكون، مشيرًا إلى أن معرفة الذات العميقة (فهم نقاط الضعف والفطرة التوحيدية) هي سبيل لمعرفة الله. وهذان المفهومان متلازمان في الرحلة الروحية للإنسان.
سؤال "هل معرفة الذات شرط مسبق لمعرفة الله؟" هو أحد الأسئلة العميقة والجوهرية التي شغلت ذهن الإنسان دائمًا. بينما القرآن الكريم لا يستخدم صراحة عبارة "معرفة الذات شرط مسبق لمعرفة الله"، فإنه يؤكد بقوة على أهمية التأمل والتدبر والتفكر في الآيات الإلهية، سواء في الآفاق (الكون) أو في الأنفس (داخل الكيان البشري). هذا التأكيد يشير إلى أن النظرة العميقة إلى الذات، كواحدة من أهم تجليات القدرة والحكمة الإلهية، يمكن أن تكون مسارًا واضحًا للوصول إلى معرفة الله. إن الفهم الصحيح لوجود الإنسان نفسه هو الخطوة الأولى نحو إدراك خالق الوجود كله. يدعو القرآن الإنسان مرارًا وتكرارًا للنظر في خلقه ومراحل تكوينه. هذه الدعوة ليست مجرد فضول علمي، بل هي دعوة لمعرفة المبدأ والمعاد، وإدراك عظمة الخالق. في سورة الذاريات، الآيتان 20 و 21، يقول الله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟). توضح هاتان الآيتان بجلاء أن آيات الله ليست موجودة فقط في اتساع الكون والطبيعة، بل هي متجذرة بعمق في داخل الإنسان نفسه. إن التفكر في كيفية الخلق، من نطفة بلا حياة إلى كائن معقد يتمتع بالعقل والشعور، هو رمز لقدرة الله اللامتناهية وعلمه الذي لا يحد. كل خلية، وكل نسيج، وكل نظام في جسم الإنسان، هو معجزة تشهد على وجود خالق حكيم وقدير. هذا النوع من التأمل الذاتي، في جوهره، هو رحلة داخلية ("سير أنفسي")، التي إذا تمت ببصيرة، ترفع الستار عن أسرار الوجود وتمهد الطريق لمعرفة الله. هذا النظر إلى الذات يبدأ بإدراك ضعف الإنسان واحتياجاته؛ فالإنسان يدرك سريعًا أنه كائن فانٍ، محتاج، ومحدود. وهذا الإدراك يقوده نحو القوة غير المحدودة والغنى المطلق، ألا وهو الله. عندما يدرك الإنسان أنه لا يمتلك حتى السيطرة الكاملة على أصغر وظيفة في جسده، فإنه يدرك أن قوة أعظم وأسمى تكمن وراء هذا الخلق المعقد. علاوة على ذلك، في سورة فصلت، الآية 53، ورد: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟). تؤكد هذه الآية أيضًا على أهمية معرفة الذات في مسار معرفة الله. كلمة "آيات" في القرآن تعني علامة أو دليل يرشد الإنسان نحو الحقيقة. عندما يؤكد القرآن أن الله يكشف آياته "في أنفسهم" (في بني البشر)، فهذا يعني أن التركيب الوجودي للإنسان، وتعقيدات روحه ونفسه، وقدراته العقلية والعاطفية الفريدة، كل ذلك يمكن أن يكون نوافذ لإدراك عظمة الخالق. إن فهم الطبيعة الهادفة لخلق الإنسان هو إحدى الصفات التي تميز البشر عن سائر المخلوقات. عندما يدرك الإنسان هويته ككائن ذي إرادة حرة ومسؤول وخليفة لله في الأرض، فإن هذه المعرفة الذاتية توجهه نحو فهم واجباته ورسالته أمام الله. هذا الفهم العميق لمكانة الذات ليس مجرد بصيرة فلسفية، بل هو يقظة روحية تقود الإنسان نحو الاستسلام للإرادة الإلهية والعبودية المطلقة. معرفة الذات بالمعنى القرآني تتجاوز مجرد معرفة السمات الظاهرية والشخصية. إنها تشمل فهم مكانة الإنسان في الوجود، والغرض من خلقه، وضعفه واحتياجاته الجوهرية، وكذلك مواهبه وقدراته الكامنة. عندما يدرك الإنسان نقاط ضعفه المتأصلة، يدرك أنه من أجل البقاء والكمال، يحتاج إلى قوة أعلى وسند راسخ. هذه الحاجة الفطرية إلى قوة مطلقة ولا نهائية هي بالضبط الحاجة إلى الله. هذا الإدراك لفقر الذات والاعتماد المطلق على الخالق يرسخ أسس التواضع والعبودية في كيان الإنسان ويدفعه نحو العبادة الخالصة. من هذا المنظور، فإن معرفة الذات العميقة ليست مجرد شرط مسبق، بل هي مكون لا يتجزأ من مسار معرفة الله، لأنه بدون فهم صحيح لمكانة الذات، لا يمكن تحقيق فهم صحيح لمكانة الله وعظمته. هذا الفهم للذات يساعد الإنسان على التخلي عن الغرور والكبرياء، وبالتواضع أمام الخالق، يسلك طريق النمو الروحي. علاوة على ذلك، يشير القرآن إلى "الفطرة" الإلهية للإنسان. في سورة الروم، الآية 30، يقول الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (فأقم وجهك للدين حنيفًا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). هذه الفطرة هي الميل الداخلي واللاواعي للإنسان نحو الحقيقة والعدل وعبادة الإله الواحد. معرفة الذات الحقيقية تعني الكشف عن هذه الفطرة الإلهية. عندما ينظر الإنسان إلى داخله ويكتشف هذه الميول العميقة، فإنه في الأساس يجد علامات الخالق في كيانه الخاص. هذه الفطرة هي أساس المعرفة التوحيدية، ويمكن لمعرفة الذات الحقيقية أن توقظها وتنشطها. هذه اليقظة الفطرية هي بحد ذاتها خطوة عظيمة في طريق المعرفة والتقرب إلى الله. كما أن معرفة الإنسان لنفسه ونقاط ضعفه تجعله أكثر أملًا في الرحمة والمغفرة الإلهية والتوبة من خطاياه، وهو أحد الأركان الرئيسية للتقرب إلى الله. في النهاية، يمكن القول أنه كلما زاد وعي الإنسان بأبعاده الوجودية، من الجوانب المادية والجسدية إلى الأبعاد الروحية والأخلاقية، كلما أدرك تعقيد وانتظام الخلق، وكلما آمن بضرورة وجود خالق حكيم وقدير. هذه الرحلة الداخلية نحو معرفة الذات هي، في جوهرها، رحلة نحو معرفة الخالق، وفقط بهذه المعرفة العميقة يمكن للإنسان أن يحقق الغرض الحقيقي من خلقه، وهو العبودية لله وعبادته، ويختبر حياة ذات معنى.
يُروى عن بستان سعدي أن درويشًا كان يجلس بجوار نبع ماء ومعه طاووس جميل، متعجبًا من جمال خلق هذا الطائر. مرّ به رجل دنيوي، فلما رأى الدرويش والطاووس قال: "يا درويش، ما فائدة هذا الطائر الجميل لك؟ لا يبيض ولا يؤكل لحمه!" فابتسم الدرويش وقال: "يا جاهل! أنت لا تنظر إلا إلى المنفعة الدنيوية، أما أنا فأرى في هذا الطاووس فن الخالق وقوته التي لا مثيل لها. كل ريشة وكل لون في هذا الطاووس هي علامة على حكمته وجماله. هذا التأمل في الجمال يذكرني بالخالق، وهذا يكفيني. لو نظر الإنسان إلى نفسه وتدبر في تعقيدات وجوده، لعلم حينها أن هناك إلهًا خلق كل هذا." فتعلم الرجل من كلام الدرويش وأخذ يفكر كيف كان غافلًا عن الآيات في داخله وحوله. هذه القصة تعلمنا أن أعمق المعارف أحيانًا تبدأ بالنظر إلى أقرب الأشياء: أنفسنا.