في القرآن، القدر الإلهي (علم الله اللامتناهي بكل شيء) يتوافق مع الإرادة الإنسانية الحرة (القدرة على الاختيار وتحمل المسؤولية). علم الله لا يعني الجبر، بل هو معرفته بالاختيارات الحرة للإنسان، مما يجعل الأفراد مسؤولين عن أفعالهم.
في القرآن الكريم، يعتبر موضوع القدر الإلهي أو «القضاء والقدر» إلى جانب الإرادة والاختيار البشريين من أعمق المفاهيم وأكثرها تحديًا في آن واحد. إن النظرة الدقيقة لآيات القرآن تُظهر أن هذين المفهومين لا يتعارضان مع بعضهما البعض، بل يترابطان بطريقة حكيمة ومنطقية تُظهر عظمة وعلم الله اللانهائي، وتؤكد في الوقت نفسه على مسؤولية الإنسان وحريته في الاختيار. الإجابة القاطعة هي نعم، من منظور القرآن، القدر والإرادة الإنسانية متوافقان تمامًا، ويلعب كل منهما دورًا فريدًا وحاسمًا. لنتناول أولاً مفهوم «القدر الإلهي». القدر لغة يعني التقدير والتحديد المسبق. وفي الاصطلاح الإسلامي، يشير القدر إلى علم الله المطلق والسابق بكل الأحداث والمصائر وتفاصيل الوجود، من الأزل إلى الأبد. الله تعالى، بعلمه اللامتناهي، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون. هذا العلم لا يعني أن الأحداث مفروضة على الإنسان؛ بل إن الله، من خلال علمه اللامتناهي، يعلم أي الطرق سيختارها عباده وأي الأفعال سيقومون بها بإرادتهم الحرة. بعبارة أخرى، علم الله بأفعال الإنسان هو مجرد علمه باختياراته، وليس إجباره على تلك الاختيارات. هذا العلم الإلهي يشمل جميع القوانين التي تحكم الكون، والسنن الإلهية في الخلق والهداية، وكذلك عواقب ونتائج أفعال الإنسان. هذا هو ما يشار إليه في القرآن بـ «الكتاب المبين» أو «اللوح المحفوظ»، حيث تم تسجيل جميع الأمور فيه. لكن هذا التسجيل لا يعني سلب الإرادة من المخلوق، بل هو تسجيل لما سيحدث باختياره. على سبيل المثال، في سورة الرعد، الآية 39، نقرأ: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ». هذه الآية تدل على أنه رغم أن هناك أمراً مقدراً، إلا أن هناك إمكانية للتغيير والمشيئة الإلهية، وهذا بحد ذاته يمكن أن يرتبط بأفعال الإنسان. في المقابل، لدينا مفهوم «الإرادة والاختيار البشري». يؤكد القرآن بوضوح أن الإنسان كائن مُخيَّر ويتمتع بقدرة على الاختيار. لقد خلق الله تعالى الإنسان بالعقل، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، والقدرة على اختيار الطريق الصحيح أو الخاطئ. هذا الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، ويُشكِّل أساس المحاسبة والمكافأة والعقاب يوم القيامة. لو لم يكن الإنسان مخيرًا، لكان الأمر والنهي الإلهي، وإرسال الأنبياء، ووعد الجنة ووعيد النار بلا معنى. تشهد آيات عديدة في القرآن صراحة على الإرادة البشرية. على سبيل المثال، في سورة الكهف، الآية 29، نقرأ: «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». تُظهر هذه الآية بوضوح أن الإنسان حر في اختيار طريق إيمانه أو كفره. علاوة على ذلك، في سورة الإنسان، الآية 3، جاء: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا». تؤكد هذه الآية أيضًا أن الله قد بيّن للإنسان طريق الهداية، ولكن اختيار المسار، سواء كان شكرًا أو كفرانًا، يقع على عاتقه هو. فكيف يتوافق هذان المفهومان؟ يستند التوافق بين القدر والإرادة البشرية في القرآن إلى فهم صحيح للعلم والمشيئة الإلهية. علم الله سابق، ويشمل جميع الاختيارات التي سيقوم بها البشر بإرادتهم الحرة. هذا العلم لا يؤدي بأي حال من الأحوال إلى سلب الإرادة من الإنسان؛ لأن معرفة شيء تختلف عن إجباره. تخيل معلمًا يعلم أي طالب سينجح بجهده ومثابرته وأي طالب سيرسب بسبب كسله. هذه المعرفة من جانب المعلم لا تجعل الطلاب مجبرين على النجاح أو الفشل. فهم ما زالوا يختارون بوعيهم الاجتهاد أو التكاسل. وبالمثل، فإن الله، بعلمه اللامتناهي، يعلم اختياراتنا، لكن هذا العلم لا يغير الطبيعة الإرادية لأفعالنا. نقطة أخرى حاسمة هي أن الإرادة البشرية تعمل ضمن إطار القدر الإلهي. وهذا يعني أن الله قد خلق كونًا توجد فيه إمكانية الاختيار والإرادة للإنسان. جميع المواهب والقدرات والظروف البيئية التي يجد الإنسان نفسه فيها هي جزء من القدر الإلهي. ومع ذلك، فإن كيفية استخدام هذه المواهب والتفاعل مع هذه الظروف هي في يد الإنسان. في رحلة حياته، يواجه الإنسان عقبات وفرصًا هي جزء من قدره، ولكن كيف يواجهها، ويقرر، ويتصرف، هو نتيجة إرادته واختياره. هذا المنظور لا يؤدي إلى الجبرية؛ بل يدفع الإنسان نحو الجهد والسعي وتحمل المسؤولية. فالاعتقاد الصحيح بالقدر لا يعني نفي الجهد، بل يعني التوكل على الله بعد بذل كل جهد ممكن. باختصار، يقدم القرآن فلسفة متوازنة تشمل عظمة الخالق مع الحفاظ على قيمة المخلوق ومسؤوليته. الإنسان فاعل حر، لكنه يعيش في نظام يدبره خالق حكيم وعليم. هذا التوازن يعزز دافع الإنسان للعمل الصالح وتجنب الإثم، لأنه يعلم أن مصيره إلى حد كبير هو نتيجة اختياراته وأفعاله الخاصة، والتي تم تسجيلها بالطبع في علم الله الأزلي. هذا المنظور يمنع الإنسان من اليأس في مواجهة الصعوبات ومن الغرور في مواجهة النجاحات، ويوجهه نحو التواضع والاعتماد على الله، مع تحمله لمسؤولية أفعاله. لذلك، فإن مفهوم القدر في القرآن لا يقتصر على التوافق مع الإرادة البشرية، بل يشكل أساس نظام الثواب والعقاب والهداية الإلهية.
يُحكى أنه في قديم الزمان، رأى رجل تقي متوكل على الله، درويشًا يشتكي من الفقر والضيق، ويقول: «يا حظي العاثر، قدَّر لي القدر أن أظل دائمًا في معاناة.» فقال له الرجل التقي بلطف: «يا صديقي، الله كريم ورزَّاق، لكنه لم يغلق أبدًا باب السعي والاجتهاد على عباده. فكما يقول سعدي: 'إن لم يمطر غيث الرحمة على الكسالى، فلن تنبت بذرة الأمل في الأرض.' (هذا الشطر يعبر عن تعاليم سعدي حول أهمية الجهد إلى جانب التوكل على الله.) قم واسعَ لرزقك، فالرزق مقدَّر، لكن هذا لا يعني أن تجلس مكتوف الأيدي. فقد يقودك قدرك إلى رزقك، لكن خطواتك يجب أن تسلك الطريق لتصل إليه.» أخذ الدرويش بهذه النصيحة، وبدأ يعمل ويجتهد بنية صادقة وجهد مضاعف. وبعد مدة، وجد أن رزقه قد ازداد وتحرر من ضيقه. عندئذٍ، علم أن القدر الإلهي هو عين الحكمة والعدل، وأنه لا يسلب الإرادة من الإنسان أبدًا، بل يمهد طريق النجاح للمجتهدين.