في القرآن الكريم، معرفة الله هي الهدف الأسمى من خلق الإنسان، إذ لا تتم العبادة الحقيقية والكمال الإنساني إلا بمعرفة عميقة للخالق، وهذه المعرفة تؤدي إلى السلام والسعادة الأبدية.
في المنظور القرآني الشامل والفكر الإسلامي العميق، يمثل الهدف النهائي والغاية الأساسية لوجود الإنسان مسألة عميقة ومتعددة الأبعاد، تشمل جوانب متنوعة. ومع ذلك، فإن المحور الأساسي لجميع هذه الأبعاد هو، بلا شك، معرفة الله سبحانه وتعالى. وعلى الرغم من أن بعض الآيات الكريمة تشير ظاهرياً إلى أن الغاية من خلق الجن والإنس هي "العبادة"، كما في الآية 56 من سورة الذاريات: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، إلا أنه يجب أن نفهم أن العبادة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق دون معرفة عميقة وإدراك صحيح للمعبود. العبادة ليست مجرد أداء مناسك ظاهرية؛ بل هي حالة من العبودية، والتسليم، والحب، والطاعة، تنبع من المعرفة الصادقة بالله والاعتراف بعظمته، ولا يستطيع الإنسان أن يصل إلى عمق العبودية الحقيقي دون هذه المعرفة. معرفة الله تعني إدراك صفاته الكمالية والجمالية، والوقوف على وحدانيته، وحكمته، وقدرته، وعلمه، ورحمته، وعدله، وسائر أسمائه الحسنى. هذه المعرفة ليست مجرد فهم عقلي أو فلسفي، بل هي معرفة قلبية ووجودية تؤدي إلى إيمان راسخ وعمل صالح. يدعو القرآن الكريم الإنسان مرارًا وتكرارًا إلى التفكر والتدبر والتعقل في الآفاق والأنفس، لكي يدرك عظمة الخالق ويعمق معرفته به. توجد العديد من الآيات في القرآن التي تشير إلى هذا الأمر، ومنها الآيات 190 و 191 من سورة آل عمران التي تقول: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). هذه الآيات تُظهر بوضوح أن التفكر في الخلق هو طريق للوصول إلى معرفة أعمق بالله، وهذه المعرفة ليست مجرد علم جامد، بل هي مصدر للذكر والدعاء الخالص. علاوة على ذلك، يؤكد القرآن الكريم بشدة على مشاهدة وتدبر "الآيات" أو دلائل وجود الله. هذه الآيات تتجلى في العالم الخارجي (الآفاق) وفي داخل الإنسان نفسه (الأنفس). تقول الآية 53 من سورة فصلت: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). هذا المسار من التفكر واكتشاف الآيات الإلهية هو بالضبط طريق الوصول إلى المعرفة. فكلما تأمل الإنسان في هذه الآيات أكثر، وأدرك العظمة والتدبير الإلهي، كلما تعمقت معرفته بالله، وستكون نتيجة هذه المعرفة إيمانًا أقوى، وخشوعًا أكبر، وعبادة أكثر إخلاصًا. هذه العملية لا تؤدي فقط إلى النمو الفكري والروحي، بل تساعد الإنسان على فهم مكانه في الوجود وعلاقته بالخالق بشكل صحيح. معرفة الله ليست فقط الهدف الأسمى، بل هي منبع كل خير وبركة في حياة الإنسان. فالإنسان الذي يعرف الله حق المعرفة يمتلك توكلاً حقيقيًا، ويبتعد عن اليأس، ويُظهر صبرًا وثباتًا أكبر في مواجهة الصعاب والتحديات. هذه المعرفة تدفعه نحو الأخلاق الحسنة، والعدل، والإحسان، وخدمة الخلق، لأنه يعلم أن كل عمل صالح يتم إنجازه ابتغاء مرضاة الله، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين. بعبارة أخرى، تتشكل جميع أبعاد حياة المؤمن الحقيقي، بما في ذلك أخلاقه الفردية والاجتماعية، بناءً على معرفته بالله. هذا الإدراك الإلهي يمنح الإنسان بصيرة تتجاوز المصالح المادية والدنيوية، ويهديه نحو القيم المستدامة والروحية. إن المعرفة الصحيحة بالله تحرر الإنسان من المخاوف التي لا أساس لها والتعلقات الفانية، وتمنحه قلبًا مليئًا بالسلام والرضا. في الواقع، يمكن القول إن الآية "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" يجب أن تُفسر في ضوء هذا الفهم العميق للعبادة. العبادة التي تتحقق بمعناها الكامل تتطلب معرفة كاملة بالله. هذه المعرفة ترتقي بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال الممكنة، وتجعله جديراً بمقام "خليفة الله" على الأرض. فالقرآن الكريم يقدم الإنسان بصفته "خليفة" لله ونائبه على الأرض، ومقتضى هذه الخلافة هو معرفة الصفات الإلهية وتجلّيها في سلوك الإنسان وتعامله. إن معرفة الله تحرر الإنسان من عبودية ما سوى الله، وتمنحه الحرية والكرامة الحقيقية. ويؤدي هذا التحرر إلى السلام والطمأنينة الداخلية والخارجية، ويهيئ الإنسان للحياة الأبدية في الآخرة. إن معرفة الخالق ليست مجرد واجب ديني، بل هي حاجة فطرية للروح البشرية، وبدونها يبقى فراغ عميق في وجوده. وعليه، يمكن القول إن الهدف الأسمى للإنسان في القرآن هو الوصول إلى مقام العبودية الخالصة التي لا تتأتى إلا بمعرفة الله العميقة والشاملة، وهذه المعرفة هي التي تمهد الطريق للكمال والسعادة الأبدية. لذا، فإن معرفة الله ليست مجرد هدف، بل هي البوابة التي تؤدي إلى جميع الأهداف السامية في الحياة والمقصد النهائي لرحلة الإنسان الوجودية، وتقوده إلى غايته النهائية، وهي لقاء الله ورضوانه.
في يوم من الأيام، كان درويش مشهور بحكمته وبصيرته العميقة يجلس بجانب جدول ماء، يتأمل في أحوال الدنيا. اقترب منه تاجر ثري ومثقل بهمومه الدنيوية، يشكو من الدورة اللانهائية من اكتساب الممتلكات وفقدانها. تنهد وقال: "يا أيها الرجل الحكيم، لقد سعيت وراء الثروة والسلطة والشهرة، لكن قلبي لا يزال مضطربًا. ما هو الكنز الحقيقي في هذه الحياة؟" ابتسم الدرويش بلطف والتقط حجرًا صغيرًا من ضفة الجدول. قال: "يا صديقي، هذا الجدول يتدفق إلى الأبد، لكنه لا يسعى وراء الذهب أو الفضة. غايته هي الوصول إلى المحيط الواسع، وهو يغذي الحياة في طريقه. وهكذا هي الروح البشرية. هدفها الحقيقي ليس في تكديس متاع الدنيا الزائل، بل في الاتصال بخالقها، ذلك المحيط اللامحدود من الوجود. فما قيمة كل ذهب الأرض مقارنة بقطرة واحدة من المعرفة الإلهية التي تنير القلب؟ إن الهدوء الحقيقي والفرح الدائم لا يوجد في ما تملك، بل في معرفة من يملك كل شيء." بدأ التاجر، الذي تواضع بكلمات الدرويش، في التأمل في هدفه الحقيقي في الحياة، وأدرك أن السعي وراء معرفة الله هو السبيل الوحيد للسلام الدائم.